باتت معظم العبارات التي نستعملها في الشأن الوطنيّ، نحن الناطقين بالعربيّة، خالية من مضامينها ومعانيها. نقول شيئًا ونحن نقصد نقيضه. ننسب لأنفسنا صفات وألقابًا لسنا على شيء منها. فثمّة مَن يدعو إلى قيام الدولة المدنيّة، أمّا قصده فدولة “دينيّة” ليس فيها من المدنيّة أيّ شيء. وثمّة مَن يتحدّث عن الحرّيّة والديمقراطيّة والاشتراكيّة، وفي الآن عينه لا يمارس منها حرفًا واحدًا في حزبه أو في مجتمعه. وثمّة أنظمة علمانيّة تقمع العلمانيّين وتضطهدهم وتسجنهم قبل سواهم من مناهضيها. وثمّة مَن يدعو إلى إلغاء الطائفيّة، فيما هو غارق في الطائفيّة إلى أذنيه.
نعيّد الاستقلال فما نحن مستعمَرون من جديد ننتظر الخارج كي يساندنا ضدّ شريكنا في الوطن. نتحدّث عن الوحدة الوطنيّة وعصبيّتنا المذهبيّة أو الدينيّة فوق كلّ العصبيّات وفوق كلّ اعتبار آخر. نعيّد الجلاء وبلادنا تحتلّها الجيوش الأجنبيّة وتستبيح برّها وبحرها وجوّها، ما فوق الأرض وما تحتها. وما تحت الأرض هو الأهمّ والأثمن حيث تفوح روائح الغاز والنفط والثروات، وتبًّا للبشر إن تساقطوا كالذباب على مذابح المصالح الدوليّة والقادة المحلّيّين المعتاشين على دماء شعوبهم.
نعيّد اليوم “عيد المقاومة والتحرير”. نعم لقد خرج جيش العدو الصهيونيّ من جنوب لبنان، عام 2000، مهزومًا بفضل المقاومين الذين قدّموا ذواتهم من أجل تحرير الأرض من دنس المغتصبين. وإذ نعيّد لذلك الحدث التاريخيّ بكلّ ما للكلمة من معنى، نتساءل في ما يحيط بنا من ظروف قاسية وأحداث أليمة وكوارث مفجعة أين نحن في الواقع الراهن من مفهومَي المقاومة والتحرير؟
لا يقتصر مفهوما المقاومة والتحرير على الصراع ضدّ عدوّ خارجيّ وحسب. هما يرتبطان أيضًا بالمقاومة ضدّ الاستبداد والاستعباد والاستغلال والتخلّف، والمقاومة ضدّ الأنظمة الاستبداديّة وضدّ الظلم وقمع الحرّيّات وهيمنة الحزب الواحد. والتحرير يبتغي أوّلاً تحرير الإنسان من الانتماءات الضيّقة والتمييز الطائفيّ والمذهبيّ، والوصول تاليًا إلى دولة المواطنة واحترام الإنسان والتنوّع الثقافيّ والاجتماعيّ، واحترام الحرّيّات العامّة. المقاومة والاستبداد، التحرير والاستعباد عبارتان تحملان تناقضًا لا يستقيم، وتضادًّا ينفي فيه أحدهما الآخر.
أمّا الثورة التي يروج الحديث عنها هنا وثمّة، فلها شروط كي تستحقّ أن تسمّى ثورة. الثورة لا يمكن أن تسمّى ثورة إلاّ حين تكون ثمارها تقدّمًا وازدهارًا واحترامًا للإنسان وكرامته. ليست الثورة ثورةً حين يتمّ استبدال نظام ظلاّم يقمع الحرّيّات بنظام قهّار لا يحترم الحرّيّات. إذا لم تقترن الثورة والمقاومة بالحرّيّة تكون قتّالة للأحلام بغد أفضل للشعب الناهض. إنّه لمن السخريّة السوداء أن تسمّى الثورة ثورةً والمقاومة مقاومةً إذا لم تغيّر في قواعد الاجتماع والثقافة والسياسة والدين.
الثورات في البلاد الأوروبيّة اقترنت بنهضة علميّة وثقافيّة وحضاريّة. واقترنت أيضًا بمفاهيم جديدة سادت العلاقات السياسيّة والحقوقيّة والاجتماعيّة بين أفراد المجتمع الواحد، على رأسها مفهوم المواطنة التي هي المجال الحياديّ الذي يجد فيه كلّ فرد من أفراد المجتمع مساويًا في الحقوق والواجبات لكلّ فرد آخر، بصرف النظر عن لونه ولغته ودينه وطائفته ومذهبه. كما أتى مفهوم الديموقراطيّة ليكون الآليّة العمليّة لممارسة المواطنة على شكلها الأفضل. لذلك لا ديموقراطيّة حقيقيّة من دون احترام للمواطنة.
قامت الثورات في الدول الأوروبيّة على مفاهيم جديدة في الفلسفة والقانون والعلوم الإنسانيّة والعلوم البحتة. فقد ترافقت تلك الثورات بالتقدّم العلميّ والاختراعات والاكتشافات، وترافقت مع عصر المدنيّة والحداثة بكلّ معانيها، وترافقت مع فصل الدين عن الدولة. التطوّر العلميّ والثقافيّ وسيادة العلم والفلسفة أدّيا إلى قيام دول تحترم حقوق الإنسان – على الأقلّ إنسانها – وتحترم الانتماءات المختلفة لأفرادها.
ليس كلّ مَن ادّعى المقاومة مقاومًا، وليس كلّ مَن نادى بالحرّيّة حرًّا، وليس كلّ مَن ادّعى الثورة ثائرًا حقيقيًّا. عسى أن ينسجم كلّ المقاومين والثائرين مع ما تحمله صفاتهم من قيم عليا، كي لا يُغبن الصادقون منهم حقّهم بما يسعون إليه من حياة أفضل لهم ولبني قومهم.
الوسوم :مقاومة وثورة وتحرير... متى؟