زكي ناصيف نغم دائم في البال، أغانيه المشرّشة في الأرض، نردّدها كصلاة التوبة كلّما لبسنا اليأس وشككنا في الهوية وبات الشوك أعلى من الورد. من صنف العصافير هو، من جناحها أخذ ريشة وفي لقاح الفراشات غمس وكتب لبنان، الذي لا زغل فيه ولا غبار ولا ارتياب، الذي تعمّد في ينابيعه مغسولا من خطيئة البشر.
هكذا هو زكي ناصيف في ذاكرتنا، شاعراً أصيلاً، من صباغ الزهر وطيف امرأة عابر، صنع أغنيته، وصوته الغرّيد يعود إلى ذاكرتنا في هذه الليلة الاستذكارية لمئويّته، عذباً، حنوناً، ظلّ صامداً في زمن البراءة، يحلم بـ”عاشقة الورد” ويعدها بتشكيلة. المايسترو أندره الحاج لم يزعزع رسولية زكي ناصيف في كل ما ادخره في ألحانه العذبة العابقة بالحنين والعاطفة والوحي الشعري. فتتويجاً لهذه الأغاني المنبعثة من قلب الريف وبكارته، هذا الريف وإن ذابت معالمه مع الزمن، بقي في كل آية من آياته، عربون حب وإخلاص للتراث اللبناني، إيقاعاً وشعراً وموّالاً، انطلقت الأوركسترا الوطنيّة الشرقية تحت راية هذا المايسترو الطموح، الذي في هذه الورشة المباركة راهن على البعد الثاني لموسيقى زكي ناصيف. موسيقاه المتقوقعة في فولكلورها، عبرت في هذه المناسبة حدود الفولكلور اللبناني لإعداد أوركسترالي محسوس، احتفالا بسمفونية الأرض.
لهذه الليلة كان للغائب – الحاضر غير مفاجأة، تعيد إلى حديقته فوحها. الوليمة أعدّت مقاديرها العزفية والغنائية والجوقية من عناصر المعهد الوطني العالي وخيرة تلامذتها، الواعدين بمواصلة الإرث الثقافي، الفني، مثلما وضع، الحاضر دوما، الدكتور وليد غلميّة، مداميكه وركائزه المتينة فارتفع عليها الوطن الذي نعتز به: أوركسترا غربية وأوركسترا شرقية، وكان لا بد من مثقّف آخر، الدكتور وليد مسلّم، ليحمل هذا المشعل ويكمّل بشغف رسولية سلفه. هذا ما بتنا نعتمد عليه، معهداً جمع الوطن تحت جناحيه حتى لا تتبعثر مكوّناته الإرثية حيث لا أساسات لها يرتفع عليها البناء السليم.
باللباس الأبيض اتخذت الجوقة المدرّبة أفضل تدريب على السيدة يولا شلهوب، مكانها، خلف الأوركسترا، وفي حناجرها الصافية إرث من غلاّت جنائن زكي ناصيف، كما كنا نسمعها منه حين يغلبه الحنين إلى “عاشقة الورد”، هو العاشق دوماً يلحّن ما يطرب قلبه وتبقى نزعة الحزن متغلغلة في أوتاره. فعلى إيقاع الدف والطبل، توسّعت رقصة الأباريق لتشمل الأوركسترا بكاملها، فيما عصا المايسترو ساهرة على أداء الجوقة، إناثاً وذكوراً، وبين لازمتين، تعلو صرخة مدوّية من الذكور كنداء الفلاحين من قاطع إلى آخر.
زكي ناصيف المثلّث، كاتبًا وملحنا ومغنيّا، استوحى من كلمات مصطفى محمود لحناً لأغنية “طلّوا حبابنا”، هي الوحيدة في هذا “الريبرتوار” الشامل إثنتي عشرة مقطوعة غنائية له، في غالبيتها، من “هلا يا هلا”، “اشتقنا ع لبنان”، “صبّحنا وفجر جديد”، “اشتقنا كتير”، و”راجع لبنان”، كانت الأوركسترا السمفونية تهدهدنا على أصوات الجوقة، إلى أن دخلت الأصوات المنفردة، تغوي السمع والروح معاً، أصوات مشغولة لا لسهرة من المتعة والزهو، بل أكثر من ذلك، لتكون حارسة هذه الخزنة الوطنية من الضياع. كاترين غالي، وميشال خوري، من تلامذة المعهد، لكل منهما نصيبه في هذا الإرث الذي وسّع رقعته وأعدّه أوركسترالياً أندره الحاج، ولكل منهما إطلالته البارزة، بالشكل الخارجي والأمانة التي اعادا تطويعها وتشييدها في الأسلوب والتقنية والموهبة الصوتية. بأغنيتين “حبايبنا حوالينا” و”بناديلك يا حبيبي”، ارتقت كاترين غالي الصبيّة الساحرة إلى المستوى الاحترافي العالي، بخامة سلسة، استوعبت الدور وأنشدته مدوزنا، صارخا من الأعماق. وكمنشد معتّق في خوابي الموّال اللبناني، أعادنا ميشال خوري إلى صميم الأرض، إلى العرزال والحاكورة. هذا الشاب الوسيم، خطفه زكي ناصيف إلى زمن ليس زمنه، فاستأنس فيه. “نقّيلي أحلى زهرة” و”رمشة عينك”، أطلقتا لحنجرته صوت الوديان وخرير السواقي، وبدا فعلا يوزّع من غلاّت صوته قمحاً للحنين والاشتياق.
من مفاجآت هذه الليلة كونشرتو لعود وأوركسترا من تأليف عبّاس قسعماني وأعداد وجدي أبو دياب. المؤلّف كان على عوده يلقّمه آيات ذات بعد صوفي، تقي، إلى أن حامت الأوركسترا حوله، تؤجّج الحدث وتترقى به إلى زمن أندلسي أليف. التقسيم بين العود والأوركسترا كان حسّوياً يلتقط النفس لسمع أنقى، نابع من مؤلّف كتب حقلاً للتأمل، للرحيل في لواعج النفس إلى أبعاد يعلو منها احياناً، حوار بين ناي وعود. وعاد الغناء ليريكياً، مؤثراً، يرتقي بصوت غادة غانم في قصيدة طلال حيدر وإعداد أندره الحاج. “تركوني أهلي” احتوتها غادة في تراجيدية خامة حنجرتها. هكذا ألفناها.
النهار