مرة أخرى تثمر حملات “النهار” وتنجح في المحافظة على معلم تراثي – ثقافي – تاريخي. ها هو منزل رئيس الجمهورية الراحل اللواء فؤاد شهاب في جونية يتحول متحفاً ومكتبة، ستحتفل الرهبانية اللبنانية المارونية بافتتاحه الاثنين المقبل، تكريماً لذكرى باني دولة المؤسسات ومؤسس الجيش اللبناني.
لهذه الغاية تقيم الرهبانية التي انتقلت اليها ملكية العقار 167- غادير المدرج في “لائحة الجرد للأبنية التاريخية” بموجب القرار 178 تاريخ 21/11/2013، احتفالاً في المدرسة المركزية الملاصقة له عند السابعة من مساء الاثنين المقبل 11 تموز، تعلن خلاله اختتام أعمال الترميم وجهوزية المتحف والمكتبة لاستقبال الزائرين وتلامذة المدارس والجامعات والباحثين في فكر فؤاد شهاب ونهجه ومرحلة حكمه وقيادته.
قبل 7 سنوات كاد منزل الرئيس شهاب أن يتحول مطعماً، وتندثر معه حقبة طويلة من تاريخ لبنان، صنعها رجل يعد نموذجاً للرجال الكبار الذين يتركون اثراً مضيئاً في تاريخ بلادهم وانجازات تتحدث عنهم، ومثالاً لرؤساء الجمهورية الذين يبنون دولة القانون والمؤسسات، لو لم تطلق “النهار” حملة صحافية للمحافظة عليه وتجاوب رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان ووزراء الثقافة المتعاقبين وبلدية جونية. واليوم تحول الحلم حقيقة، ومعه يرتقي لبنان ليكون في مصاف الدول المتحضرة التي تكرم عظماءها وتحفظ إرث رجالاتها امثولة للأجيال.
ويتحدث رئيس “المدرسة المركزية” الأب وديع سقيم عن الهدف من تبني المشروع، فيقول “إن هذا المتحف يأتي في إطار الوفاء من الأم الرهبانية لجار المدرسة المركزية الذي عرفته وعايشته ودخل كنيستها مصلياً كل أسبوع، ورداً لجميله عليها، فهو من دفع رهبنتنا الى شراء المدرسة عام 1966 من الاخوة المريميين، وتكريماً لرجل دولة بكل ما في الكلمة من معنى. نحن نقدم الى أجيال لبنان ذاكرة احد رجالاته، مثالاً وقدوة، وهو بحق باني الدولة والمؤسسات والذي عاش بصمت وزهد غير آبه بالمظاهر، ونحن لا نزال نعيش على انقاض هذه المؤسسات التي ارسى قواعدها الرئيس شهاب، ونعتبره قدوة تتشبه به الاجيال قائداً ورئيساً للدولة ومواطناً طبق المواطنة على نفسه قبل سواه”.
325 متراً مربعاً فقط هي مساحة الشقة التي كان يسكنها رئيس الجمهورية وزوجته روز- رينيه، عاشا وماتا فيها بتقشف وكرامة وكبرياء، وفيها يقوم المتحف والمكتبة بعد انتهاء اعمال الترميم التي استوجبته نتيجة الاهمال ومحاولات هدمه التي كسرت كل شيء فيه وجعلته ورشة خراب لم تبق فيه شيئا. وها هو اليوم يستعيد ألقه وجماله، ببلاطه وجدرانه وأباجوراته وابوابه الخشبية وإنارته وسقوفياته والجفصين. بيت متواضع كان يتألف من غرفة نوم وصالون وسفرة ومكتب ومطبخ صغير، لكنه كبير بساكنيه، لا يزال يحكي سيرتهما وحياتهما. قسم اليوم الى غرفة نوم، ومكتب، ومكتبة، وقاعة عرض كبيرة تتوزع في ارجائها الواجهات الزجاجية التي تضم اغراضه المحفوظة بعد تنظيفها وترتيبها.
مصمم المتحف المهندس انطوان عطا الله أراد المتحف “على غرار متاحف الشخصيات العالمية، مثل شارل ديغول وجورج بومبيدو وغيرهما، واختار اللونين الاسود والأبيض، وأضاف الأحمر لإضفاء التوهج وبعث الدفء والحرارة في المكان”.
كل شيء هنا يحكي عن فؤاد شهاب الإنسان والقائد والرئيس، ويستعيده بأدق التفاصيل: صور العائلة والطفولة والقيادة والرئاسة، نياشينه وأوسمته، بذته العسكرية، أسلحة وسيوف، بطاقة الهوية، البطاقة العسكرية، دفتر المعاش التقاعدي، مطرقة الرئاسة، وثيقة الزواج، وصيته، مجموعة غلايينه وقداحاته، شهاداته العسكرية، مجموعة المراسيم التي اصدرها وشكل بموجبها المؤسسات الرسمية، مشاريع القوانين، الرسائل التي تلقاها من رؤساء الدول ومراسلاته الشخصية والرسمية، صور الكاريكاتور، الشمعدان الذي احرق به استقالته، بعض الأثاث المنزلي من كنبات أعيد تنجيدها وأوان فضية وكريستال، هدايا رئاسية، الخاتم الذي قدمته له الملكة اليزابيث، وأعلام وغيرها الكثير من المقتنيات الصغيرة والكبيرة والتي يوازي عددها الخمسمئة قطعة.
في غرفة المكتب اعيد المكتب الخشبي الذي كان يستخدمه وعليه نظاراته وقبعته السوداء الشهيرة، وخلفه مجسم للرئيس يمثله جالساً على كرسيه يلتقط قلماً ويكتب ورقته الأخيرة بالفرنسية، والى جانبه واجهة زجاجية وخشبية وضعت فيها كتب ونياشين ونمرة السيارة الرئاسية ذات الرقم 1، اضافة الى مقاعد منجدة وبار خشبي يحتوي كؤوس الشمبانيا التي كان يحبها كثيراً ويقدمها الى ضيوفه. وإلى غرفة النوم اعيدت خزانته التي وضع فيها لباسه العسكري ومجموعة ربطات عنق ومشايات، وفي الوسط سرير جديد صنع مطابقاً لسريره الأصلي الذي تكسر، وفي الزاوية كتب الصلاة وأواني الزيت المقدس والبخور ومسابح وأيقونات، وفي زاوية اخرى عدة الحلاقة وقناني العطور.
وخصصت غرفتان للمكتبة نضدت رفوفها بمجموعات الكتب التي كان يقرأها والكتب التي تألفت عنه، إضافة الى أرشيف ضخم من المقالات والتحقيقات الصحافية التي كتبت عنه، تتوسطها طاولة ومقاعد وأجهزة كومبيوتر للباحثين. وفي واجهة زجاجية حفظ كتابان له بخط يده.
وفي القاعة الكبرى صور كبيرة تمثل شهاب قائداً ورئيساً يؤدي القسم، وجدار مقسم الى مربعات تحوي صوراً تمثله مع قادة الدول وشخصيات عالمية ومحلية، تتوزع بينها نسخ عن 24 مرسوماً للمؤسسات الرسمية التي استحدثها في عهده وشكلت حجر الاساس لدولة القانون والمؤسسات، تتوسطه شاشة كبيرة تعرض افلاماً لنشاطاته وخطاباته، وأجهزة الكترونية تسمح لمستخدمها بمشاهدة افلام وثائقية عنه بالصوت والصورة. كذلك أعيد اصلاح الباب الخشبي المزين بالنجوم المصنوعة من الحديد المشغول، تماماً كما كان.
وفي الحديقة الخارجية التي تحوط المنزل نصب تمثال من الحجر للرئيس شهاب تقدمة آل أفرام، نحته الفنان برنار غصوب من كلية الفن المقدس في جامعة الروح القدس- الكسليك، وستعرض ايضا سيارته الشفروليه موديل 1962.
كل هذه المقتنيات جمعتها المدرسة المركزية من ولدي شقيقه الاميرين عبدالله وطالب فريد شهاب، ومن وزارة الدفاع و”مؤسسة فؤاد شهاب” و”مؤسسة المحفوظات الوطنية” ومن العديد من الصحف ودور النشر. وبلغت كلفة المتحف نحو مليون ونصف المليون دولار، وعمل مكتب فونيكس للدراسات في جامعة الروح القدس على ارشفة المستندات والمطبوعات وتوثيقها.
النهار