“روميو وجولييت” تحفة شكسبير، كان لها في قصر بيت الدين وقع المفاجأة التي غيّرت مفاهيم التصاميم الكوريغرافية التي تناولت حتى الآن ميتولوجيا الحب والموت لدى هذين العاشقين الخالدين. فلأنجلان بريلجوكاج، رؤى تصميمية، كوريغرافية، تخطّت الأعراف التي تؤمن بأن الرقص هو فن المشاعر الرقيقة، والرومنطيقية التي تعلو بأجساد لا وزن لها ولا حدود إلى مراقد الحلم.
من الأجواء الظليلة التي يكاد الضوء يعبر فيها بخجل، تبدأ نيات هذا المبدع، تصرّح بما خطّط له من ابتكار يقوده إلى فكر شكسبير حيث جوهر الصراع حتى الموت من أجل الحريّة وموسيقى بروكوفييف الذي سكب حكاية شكسبير في المناخ السوفياتي الذي عاش فيه وتأثّر به. بين الديكتاتورية المستبدة والشعب المغلوب تحت سطوته، كانت رائعة بريجلوكاج في ديكور شيّد من أسوار وبرج رمادي، تخيّله مصمّمه أنكي بيلال، صاروخاً سوريالياً. في أعلى البرج حارس برفقة كلبه البوليسي وفي يده مصباح، يتحرّى بضوئه الساطع على الداخل والخارج. ما إن تبدأ الموسيقى، هادرة، تنذر بحدث، حتى تدخل مجموعة راقصين بملابس معدنية سوداء – والرقص هنا، جاحد، جامد، جافّ – يتقدمون بخطى عسكرية تقابلهم زمرة من المنبوذين، في رقص طيّع، مشعوذ، مشاغب، يلعب للحريّة.
بريلجوكاج عرّى الأسطورة من المشاعر الرقيقة، وما تنعته اللغة الفرنسية بـ”ماء الورد”. لقد ارتفع بالعمل الكوريغرافي إلى جمالية قاسية، وتعبيرية شرسة، مقتلعة من جذور الانسانية القائمة على التفرقة والحقد والثأر والحواجز القاتلة بين غني وفقير، بين سلطة ديكتاتورية وشعب منبوذ. هذه هي الرؤية الفصيحة التي بنى عليها هذا الكوريغرافي الملهم، نقيض الرقص الرومنطيقي، ما عدا اللقاء المنشود بين الحبيبين الخالدين، اللذين خصّهما بروكوفييف بأعذب الأنغام التصويرية المهداة إلى عاشقين. فالحب في مفهوم شكسبير ليس علاقة بين امرأة ورجل وحسب، الحب هو المخلّص من دناءة الوجود، كما وصلت رسالته السموية إلينا عبر العروض الكوريغرافية السابقة، التي كانت تعلو بنا إلى آفاق روحانية شفافة، فيما رأى بريلجوكاج في هذا الحب، شهوة مضطرمة، نارية، توازي في العناق والقبل، شراسة الصراع بين الفريقين المتقاتلين.
بأسلوب نيو – كلاسيكي مبني على قوة الحركة وطواعيتها، تفوّق هذا الكوريغرافي الألباني في بناء عمالقة رقص، أذهلنا تحليقهم في فضاء المسرح، حتى لغدا الصراع كأنه بين نسور كاسرة، لا تكاد تطأ الأرض حتى تدفع بها قوة مغناطيسيّة إلى ما فوق الجاذبية.
فيرونا مدينة ميتولوجية، حطّ فيها شكسبير عائلة حاكمة، إقطاعية، هي عائلة كابوليه، تنتمي إليها جولييت، وأخرى فقيرة، بائسة من عشيرة مونتيغو ينتمي إليها روميو، ما جعل الحب في هذا الجو الفاشي الضاغط، محرّماً بينهما. بزواجهما سرّاً، ينفى روميو من فيرونا، كخارج عن القانون، فيما تتظاهر جولييت بالموت بجرعها سماً غابت بمفعوله عن الوعي ولم تمت، في انتظار أن تستتب الأمور مع حبيبها. قصة روميو وجولييت باتت معروفة. يعود روميو خلسة من منفاه ليرى أن جولييت ماتت، فيطعن نفسه بسكّين ويموت ميتتها حباً وإخلاصا لها.
هذا المشهد لم يشأ به بريلجوكاج، تحنّناً وألماً، ففي الموت أيضاً عنف وصراع للبقاء. النفس المشلّعة لوعة وحزناً عبّر عنها الجسد بشراسة من يرفض موت الحبيبة. العويل سمعناه في جنون العبث بجسد جولييت كأنه يأمر الموت بالتراجع عن فعلته. هكذا هي حين استفاقت من غيبوبتها ورأته مطروحاً على جسدها. لجنون الحركة، مقادير من حب ولوعة، علّها تعيده إلى الحياة. لكن الحتمية في فلسفة شكسبير، تناولها الكوريغرافي بخياله الخصب، في رقصة موت أخذت العاشقين إلى أبديتهما.
النهار