قرأتُ كتاب “سقراط وتوماس مور – رسائل خيالية” (دار سائر المشرق) للمؤلف غابرييل شليطا بشغف كبير. وكنت كلما قلّبت صفحاته أزداد اقتناعاً بأهميته وبضرورة نشره بشكل كبير للافادة من مضمونه ومن الجهد الكبير الذي بذله المؤلف زارعاً الأمل بالتغيير في النفوس.
أنصح المواطن العادي وكل من يتعاطى الشأن العام ويتحمل المسؤولية، في وطننا وفي اي وطن آخر، بقراءة هذا الكتاب الشيق لما يتضمّنه من أفكار واقتراحات وطريقة تعاط مع القضايا الوطنية بأسلوب مبسّط ومباشر ومرن وعلمي، وخصوصاً بعد ثورة الاتصالات والعولمة التي قرّبت المسافات فبتنا كأننا نعيش في قرية كونية كبيرة نتفاعل مع حوادثها ونعاني من انعكاساتها ونستفيد من تجاربها.
اختار المؤلف شخصيتين من التاريخ هما سقراط وتوماس مور، اللذين عُرفا بعشقهما للحرية حتى الشهادة، من أجل الترويج لأفكاره حول الدولة الفاضلة والحكم الرشيد في عالم اليوم، لأن تأثيرات ما يجري في بلد ما تتردد أصداؤه وانعكاساته في بقية الدول مهما كانت قريبة ام بعيدة.
المؤلف، وهو سياسي برازيلي من أصل لبناني، يحمل تراثا كبيرا في بناء الجسور الانسانية، كأني به يحاول التشبه بمسيرة عباقرة كبار من فلاسفتنا وأدبائنا ورجالاتنا الوطنية الذين حملوا معهم، أينما حلوا او عملوا، هموم الحرية والحق والعدالة والمعرفة والمساواة والمحبة والتسامح، وهي قيم إنسانية جامعة باتت تتشاركها معظم دول العالم.
يستلهم المؤلف مسيرة من سبقه في عالم الاغتراب من فلاسفة وأدباء وشعراء ورجال سياسة من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وابرهيم الرحباني الذين سعوا الى بناء جسور التلاقي والاحترام بين المشرق والعالم الأنكلوساكسوني، والذين يعود إليهم الفضل الكبير في نقل الحكمة والروحانية والعلاقات الانسانية الحميمة التي تمتاز بها منطقة الشرق الأوسط الى الشواطئ الباردة للمحيط الهادئ، ذلك كله من اجل عالم جديد يمتاز بإنسانيته وبقيم العدالة والحق والانصاف للشعوب الضعيفة والمهمشة.
لقد أحسنت دار النشر بالطلب من المطران يوسف بشارة التقديم لهذا الكتاب كونه صاحب تجربة كبيرة، في تاريخنا المعاصر، على المستويين الوطني والكنسي. لقد احتضن المطران يوسف بشارة “لقاء قرنة شهوان” طوال اربع سنوات في مرحلة هي من اصعب مراحل حياتنا الوطنية، عاملا على ابقاء الأمل بالتغيير في النفوس اليائسة والمحبطة والمهمشة، متسلحا بإيمان كبير ساعده على بناء جسور التواصل والحوار بين أبناء الشعب الواحد، عاكفاً على تظهير دور لبنان وثوابته الوطنية القائمة على الحرية والعيش المشترك والعدالة والمساواة، الأمر الذي استدعى من البابا القديس يوحنا بولس الثاني ان يقول عنه “ان لبنان هو أكثر من بلد، إنه رسالة”.
كما ساهم المطران يوسف بشارة في انعقاد المجمع البطريركي الماروني، بعد اكثر من مئة واربعين سنة على انعقاد المجمع الاول، من أجل تحديث الكنيسة ومؤسساتها لمتابعة لعب دورها الوطني والكنسي في لبنان والمنطقة والعالم. عمل المطران يوسف في ظل بطريرك استثنائي في تاريخ الكنيسة المارونية هو البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي طبع بدوره الحياة الوطنية والكنسية بطابعه الخاص وارتبط اسمه بأهم محطات تاريخ لبنان الحديث بعدما حفر بإبرة الحق صخرة الظلم والاستبداد، فانتقل لبنان بعدها من وطن يحتضر الى وطن معافى، سيد، مستقل، تحلو فيه الحياة.
يصلح كتاب “سقراط وتوماس مور، رسائل خيالية” ان يكون مشروع شرعة وطنية للعمل السياسي، وخصوصاً في هذا المخاض الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط وبقية العالم، حيث يضرب التطرّف العالم هذه الأيام، ويتخذ أشكالا متعددة للتعبير عن يأس الشعوب من عدم القدرة على التغيير الديموقراطي وإحقاق العدل والمساواة بعد انهيار سلّم القيم والاخلاق، وخصوصاً كيل الدول القوية بمكيالين.
يأتي هذا الكتاب في مرحلة شديدة الاهمية كأننا امام تحولات كبيرة لا بد من ان تبدأ صورها بالظهور مهما طال الزمن ومهما بلغ حجم المآسي والتضحيات. ويقدّم المؤلف مساهمة متواضعة للخروج من هذه الحال المأسوية، من خلال رسائل افتراضية بين شخصيتين طبعتا تاريخ الانسانية، متسلحتين بالايمان بالله الذي خلقنا على صورته وبالاخلاق وبالقدرة على التغيير مهما اشتد الظلم وطال الزمن. من هنا جاء القول “بأن حقوق الانسان هي من حقوق الله”، وبأن “السياسة لا تتعارض مع الأخلاق، لا بل هي الأخلاق”.
نشهد في عالم اليوم حركات تغيير كبيرة في المجتمعات المحيطة بنا والبعيدة عنا، في مجتمعات كانت حتى الامس القريب معتبرة مجتمعات مدجنة ومستسلمة وغير قادرة على الحركة.
وعلى الرغم من حال العنف التي تتقنها الأنظمة الديكتاتورية لإخضاع شعوبها، فان التاريخ لن يعود الى الوراء مهما بلغت التضحيات والمآسي، فالعدالة والمساواة وحقوق الانسان والكرامة البشرية ستسود من جديد وان العمل التراكمي الذي تحمله الشعوب، وان تبدّى لنا في لحظات ضعف انه قد توقّف، لا يلبث ان يعود الى مساره الطبيعي.
يعطي الكتاب أمثلة كثيرة على قدرة الشعوب على التغيير لأن “الظلم لا يدوم مهما طال الزمن”، ولنا من دروس التاريخ الكثير من العبر، علينا “ان نُبقي الحلم قائما وان نعمل لتحقيق هذا الحلم”.
يعطي الكاتب الأمل بالخروج من حال اليأس والظلم والاستبداد بقوله “مهما كانت الأنظمة مُغلقة في ظاهرها، فإنها تخفي بعض الشقوق، لذلك علينا العمل بإيمان وصبر وهدوء وعقل مع الآخرين لأننا أبناء الحرية”. وفي حضه على عدم الاستسلام امام “صقيع الانسانية الغادر” يؤكد ان “السلطة ليست دائمة وليست وسيلة للمصلحة الخاصة”، مستشهدا بحكمة الطبيعة التي “تتوالى فصولها، ولكل منها نمط حياة ووجود. البرد لن يبقى أكثر من الفترة التي حددها الفصل الخاص به”، منتهيا الى القول “نحن ثمار الطبيعة، لو تعلّمنا منها، لما كنا عشنا برعب، لأن كل شيء يزول، لا يمكن تصّور فصل الشتاء دون وجود فصل آخر، كل شيء هو مرور، كالعصفور الذي يهاجر الى اماكن أكثر دفئا منتظرا رحيل الثلوج… كالعصفور الذي لا يطيق العيش في قفص”.
يدعونا الكاتب الى التفاؤل والايمان بالانسانية لكي ننقذ شبابنا من المآسي ولإعطائهم الأمل بالمستقبل. صحيح “ان في السياسة ثمة آفات، ولكن التربة خصبة ويجب مساعدة انفسنا وبعضنا البعض. ليست المرة الاولى التي نتعايش فيها مع الصقيع، وكمعجزة تبدأ الشمس بإذابة الجليد ويبدأ الأخضر بالبزوغ ويستقبلك بابتسامة كما حدث في أكثر من ربيع”. كما “ان النظام الديموقراطي يتفوق على كل نظام سياسي آخر لأن مساحة العمل السياسي هي مساحة السخاء، هي قرار بعدم اتاحة الوقت لاستمرار الخطأ”.
ويتابع حججه: “ليس كل السياسيين يتصفون بالجشع والفساد”، ان التعميم مبدأ ظالم، “لا أحد يولد ظالما ولكنه يتحول الى ظالم”. ويستشهد بسقراط في احدى رسائله المتخيلة لحضنا على ان نكون نموذجا ونزرع الأمل من خلال أعمالنا، بقوله: “سنترك بذور اعمالنا في الآخرين، وسيُدركون اننا مررنا من هنا ولعل افعالنا تدفع رجالا ونساء آخرين على ان لا يقوّسوا ظهورهم”. ويجيبه توماس مور في احدى رسائله المتخيلة مصوّبا مفهومنا للسلطة وطريقة تعاطيها، قائلاً: “ان السلطة هي القدرة على فعل الخير، هي تصحيح الظلم، هي من يُرجّع الحلم الى المحرومين، هي التي تحمي من هم بحاجة أكثر للحماية وتعطيهم ادوات كي يقوموا بأعمال صالحة. علينا ان نشحن عملنا اليومي بعمل نبيل، ان يكون درسا في الحب الذي يحّول السياسة الى فن بلا حدود والسياسي الى قائد”.
يجب ان نعود الى هذا الكتاب كلما اشتدت علينا المصاعب وزاد احباطنا من عدم قدرتنا على التغيير. انه كالدواء الذي يعيد الأمل الى النفوس التعبة لأنه يتضّمن “وصفات” هي عصارة تجارب تاريخية كبيرة تساعدنا على مواجهة ما نتعرض له من مصاعب بحكمة وحنكة وروية وصبر وصمود.
بينما كنت أقرأ هذا الكتاب، استحضرت تجارب اشخاص كبار من بلادي، عايشتهم وشهدت على تمسكهم بثوابتهم الوطنية وباقتناعاتهم التي لم تتغير ولم تتبدل مع تغير الاوضاع والظروف، وقدموا المصلحة العامة على مصالحهم الخاصة، ولم يستقووا بالخارج على ابناء بلدهم، بل اعتمدوا الحوار وسيلة لحل مشكلاتنا الوطنية ولم يتخلوا عن حلمهم ببناء وطن حر وسيد ومستقل، وطن نفتخر بالانتماء اليه.
كم نحن بحاجة الى التشبه بالكاتب من خلال تظهير تجارب ناجحة في تاريخنا الحديث، كان لأصحابها الدور الكبير في حياتنا الوطنية، فبدلا من ان تحجبهم الحوادث المتتابعة وتخلق القنوط والتشاؤم والاستسلام للامر الواقع، فاننا، من خلال تظهير تجاربهم الناجحة، نُعيد الأمل بالتغيير وبمتابعة العمل بصبر وايمان وبقدراتنا وقدرات شعبنا على بناء وطن يكون على صورتنا وعلى صورة اجيالنا الشابة ليتابعوا حمل مشعل الحضارة والحداثة.
النهار