الآن، بعد ثمانية أعوام على رحيل محمود درويش، وانضمامه إلى تراب بلاده، يجدر بنا القول إننا جميعنا زملاؤه في الموت الجمعيّ الفلسطينيّ، اللبنانيّ، السوريّ، العراقيّ… العربيّ، الذي هو سيّد مَن يغتال الأحلام وحاملي مشاعلها، بل سيّد مَن يفرّق الأرض ويعيث فيها خراباً دموياً مهيناً أين منه الخراب الذي تنبأت به كتب الافتراض والخيال، فضلاً عن كتب الآلهة. لم يخطئ محمود في الذهاب، تاركاً عن سابق تصوّر وتصميم، قلبه المريض في غرف الموت، مستعيناً بالشعر، وبمعنى فلسطين، وبموسيقى الأوزان، وهواء الجليل، وهواجس الحرية، جاعلاً من ذلك كلّه قوام الأوركسترا التي تعزف له ليل نهار لئلاّ يشعر بوحشة الرحيل وغلبة الموت. لكنْ، هل انتصر الموت حقاً؟ هل استطاع قتل محمود درويش؟ لقد غلبنا الموتُ، وغلب محمود درويش، مرّتين، مرّةً على يد الكيان الغاصب، ومرةً ثانية على يد التخلّف العربي نفسه. لكن الموت، أكان من طريق العدوّ، أم من طريق “الأهل”، يعجز عن قتل الشعر، ويعجز عن قتل الشاعر. عبثاً يرتكب الموت شناعاته، ويواصل غوايات استبداده. عبثاً يمرّغ الجسد في التراب، في التيه، في الغربة، في العدم، وأحياناً في الوحل. الشاعر لا يموت، وشعره في الأخص، يكمل نثر بذاره، حيث يطيب للأرض وللعصافير أن تلتقطه، لتستكمل الفعل الشعري في الحياة الثانية التي توازي الحياة، والتي هي وحدها تغلب الموت. محمود درويش يقيم هناك، في تلك الحياة الثانية. شعره خصوصاً وأيضاً.
أعترف بأن محمود درويش كان بوصلة قلبي الشعريَّة ولا يزال. لم يُتحْ لي أن أقرأه في مرحلة مبكِّرة لحرماننا منه في المنهاج الدراسي، لكني أتذكر الآن ذلك اليوم الذي رجعتُ فيه من الناصرة متأبطاً الجزء الأوَّل من ديوانه الذي أصدرته “دار العودة” في أوائل التسعينات، وأتذكر اليوم الآخر الذي منحتني فيه حيفا الجزء الثاني بفارق عامٍ أو أكثر.
يقول البعض إنني تلاشيتُ في قصيدته، في حين أقول أنا ربما هو تفاعلٌ كيميائيٌّ غريبٌ وسريٌّ ما جعلني أصادقُ هذه اللغة المختلفة الثرَّة ذات الوهج الإشراقي والموسيقى المتدفِّقة العذبة.
كانت تفعيلته هي الإيقاع الأصفى والأنقى والأجمل في سمفونيَّة الشعرِ العربيِّ كلِّه، وكانت قادرةً على جذب روحي كما جذب غناء السيرينات في الأساطير الإغريقيَّة عوليس التائه.
لم يكن درويش سقفاً لأحلامنا الشعريَّة المتعثِّرة ولا لتجاربنا الفجَّة كما زعمت وجهات نظر نقدية عديدة، بل كان سماءً زرقاء مفتوحة على رفرفاتنا الهشَّة ورؤانا الضوئيّة، وسهلاً أخضر تركض فيه أنهارنا العارية. على الرغم من قراءتي لتجارب شعريَّة لا حصر لها، لا أزال مفتوناً بلغته الصافية وبطريقته السحريَّة في صوغ عبارته الآسرة المنحوتة بإتقانٍ بالغ والمنتفضة كفراشة تتأهَّب للذوبان في معركة الضوء.
الإختلافُ على شاعر بحجم درويش لم يكن إلاَّ ليلِّمع أسطورته الشخصيّة كشاعرٍ مثيرٍ للجدل وكصاحب مدرسة شعريَّة لها أصداءٌ عميقةٌ في تجارب شعراء لا يحصون، ولها أثرٌ لا يزال يتشظَّى في أصواتهم.
أتخيَّل جيل السبعينات كلَّه وهو ينظر بغيرةٍ إلى هذا الأمير الجليلي الذي شاءت الأقدار أن يتربّع على هرم الشعرِ العربي، على حدِّ تعبير الشاعر السوري نزار قبَّاني، في وجود قامات شعريَّة عالية حينذاك.
إستطاعت قصيدة درويش أن تصنع من حديدٍ تافهٍ قمراً على حد كلامه في الـ”جدارية”، واستطاعت أيضاً أن تعيد إلينا الثقة بالشعر الجميل المكتوب بعناية والمضمَّخ بعبير البرتقال وعطر الحبق الجليلي.
أدينُ لصديقي القديم الذي فتح عينيَّ على عوالم درويش الساحرة عندما قال لي ذات مساء: ألم تقرأ لشاعر يُدعى محمود درويش؟ دع شوقي ومطران والشعر القديم جانباً، سأعطيكَ أحد دواوينه الأخيرة وأظنه كان ديوان “أرى ما أريد”، أريد رأيكَ بعد القراءة، هذا شاعرٌ فيه من السيَّاب ونزار قباني ولوركا ونيرودا والمتنبي.
على الرغم من وجود قصائد عربيَّة مدهشة كقصيدة “المومس العمياء” للسيَّاب أو قصيدة “الوقت” للشاعر السوري أدونيس ومطوَّلات الشاعرين العراقيين حسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف، وكلُّها تصلح كنماذج عالية المستوى والجودة في مدوَّنة شعرنا الحديث، إلا أنَّ “الجدارية” تتفوّق في نظري فنِّياً وشعريَّاً على ما سواها من حيث الأسلوب الأنيق والدلالات العميقة والصور المبتكرة:
“هذا هُوَ اسمُكَ
قالتِ امرأةٌ،
وغابتْ في مَمَرِّ بياضها.
هذا هُوَ اسمُكَ ، فاحفظ اسْمَكَ جَيِّداً!
لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفٍ
ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ،
كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقِيِّ
جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى
ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء
واكتُبْهُ على إحدى صخور الكهفِ”.
سيمرّ وقتٌ طويل وقصائدُ كثيرةٌ ونظريَّاتٌ نقديَّةٌ لا تسمن ولا تغني من جوع حتى نحظى بشاعرٍ من طرازٍ فريد كدرويش، ذلك الذي جعل من روحه قيثارةً سمويّةً لوجعنا الإنساني.
نمر سعدي
النهار