احتدمت المعركة أواخر الثلاثينات بين صحف فليت ستريت ورئاسة الوزراء. قال رئيس الحكومة ستانلي بولدوين: “إن الصحافة تريد السلطة من غير أن تتحمل المسؤولية”. لا نعرف ماذا تريد الصحافة في لبنان الآن، لكنها بالتأكيد تريد شيئاً أساسياً هو البقاء. وإذ يكثر الكلام على نهايات محتملة لهذه المدينة التي ولدت فيها الصحافة العربية قبل نحو قرنين، يشعر أهلها بالفزع، ليس على مصدر أرزاقهم فحسب، وإنما على أن يفقد لبنان سبباً آخر من مسببات وجوده ومبررات بقائه وعناوين تفرّده في عالم عربي خاف الحرية، ومعها خاف الصحافة والفكر والنقاش الثقافي، فبقيت بيروت وحدها نموذج الحريات قبل أن تُقهر هي أيضاً.
يميل اهل الصحافة بطبيعة المهنة وانانياتها واعتزازها، إلى رمي اللوم دائماً على جميع الآخرين. والصحافي يوزع النقد على كل وجميع ما ومن حوله، لكنه ينتفض إذا وجّهت إليه نقدة صغيرة. وقد بلغت معارك القنوات التلفزيونية حداً غير مسبوق في العقدين الاخيرين من التشاتم ومجّانية الاتهامات، بحيث اصبح اطلاق الرصاص هو الصفحة الأكثر تراحماً بين سيوف المتقاتلين. ولا ندري إلى أي قانون تخضع عمليات التشهير المتداولة والمتبادلة يومياً عبر الأثير، مع أننا نعرف طبعاً، أن تذكر القانون اصبح له يوم سنوي خاص إسوةً بيوم تذكار الموتى.
كان يُفترض أن تكون الصحافة آخر من ينضم إلى التحلّل السياسي والاجتماعي والوطني الذي لم يترك عضواً من جسد البلد من غير أن ينسفه نسفاً. والقول إن سبب ذلك كله هو الصراع على الرئاسة كلام تبسيطي سطحي تتسلى به الصحافة والسياسة كل يوم. وتسلّي به من لا يزال يحتمل هذه اللزاجة من الناس. لعبت الصحافة دوراً غير مسؤول على الاطلاق في تسخيف الرئاسة الوطنية، وتحويلها إلى أخبار شبه قضائية، أو حزازير أو افقيات وعموديات لا معنى لها ولا مكان حتى في شبكات الكلمات المتقاطعة. فالصحافة الجديّة التي كانت في الماضي تصنع الرأي العام وتزيل المظالم وتخوض حروب الحريات، اصبحت الآن تبلّغ اللبنانيين أنهم إن لم تكن الرئاسة في شباط، ففي نيسان، وأذا لم تكن في نيسان، ففي أيلول، وإن لم تكن في أيلول هذا فسوف تكون في أيلول ذاك، وإذا لم يكن المولود صبياَ بمشيئة الله، فسوف يكون بنتاَ. مع احتمال شديد ألا يكون هذا أو ذاك.
طبعاً، هذه هي المادة السياسية المتوافرة، وهذا ما يشتغل به الصحافيون. فمن الصعب أن تعيش في لبنان وتكون سياستك مثل الدانمارك. بل حتى من الصعب أن تعيش في هذا العصر وتُقنع نفسك بأن الدنيا لم تنقلب بكل ما فيها وجميع من عليها. كان في بيروت شيءٌ – من جملة اشيائها – يُدعى “الساعة العاشرة”. وكان الرئيس حلو المادة الأكثر خصوبة كل مساء. أما الضيف الأكثر ضحكاً عندما يحضر، فكان ايضاً شارل حلو. حتى الرئيس سليمان فرنجية، المعروف عنه أنه لا يحتمل المزاح، ترك مسرح “الساعة العاشرة” يقول ما يشاء ويُضحك من يشاء، ولم يمنع حفلة واحدة على رغم تبرّمه الشخصي من السخرية، وذلك لئلا لا يُقال إن لبنان عاجز عن استيعاب معاني الحرية.
طُرد هشام حداد من “التيار” لأنه مازَحَ جناب القادة. علامة شديدة السوء بين علامات كثيرة تتهافت على ثقب هذه اللوحة المعروفة باسم لبنان. أسوأ ما يحدث للأوطان في تفاقم المِحن أن يبلغ الأمر بالمتسلطين منع الناس من الضحك والدعابة. حتى الخيول تحب الضَحك. ايام الاتحاد السوفياتي كانت الأنظمة الاشتراكية تُغلق باب المعارضة بإحكام شديد. فتصدر الصحف جميعها كانها نشرة حزبية أو مدرسية. وتُقرأ نشرات الأخبار كأنها بلاغ واحد كٌتب في غرفة واحدة ووزع على جميع دول المنظومة. والأفلام السينمائية كانت تُمجد صورة العمّال والفلاحين، مع أنهم يقضون جوعاً وتعباً في المناجم، مثلهم مثل زملائهم المسحوقين في الدول الرأسمالية.
غير أن الدول الاشتراكية من موسكو إلى أولان باتور إلى برلين إلى براغ، كانت تحرص على أن توفر للناس ثلاثة ضروريات: الحليب، والبيرة، والنكات. وكان هناك مختصون يؤلفون تلك النكات التي تضحك من ير أن تؤذي أو تهدم. وأدرك النظام الاشتراكي في مصر أنه من الممكن حرمان المصريين كل شيء إلا التعبير عن شكاويهم من خلال الظرف، فأصبح يشاع أن اكثر من يتمتع بسماع تلك النكات هو الرئيس عبد الناصر. ولم يكن ذلك غريباً ولا مستغرباً، فهو أيضاً، كمصري حقيقي، كان يتمتع بحس دُعابي وفكاهي شهير. ومن أجل أن يزداد كبار مصر كِبَراً، كانوا يحرصون على ضم الفكاهة إلى امجادهم الأخرى كمثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكبار الكتاب والشعراء وبينهم نجيب محفوظ، الذي حرص على أن يجبل تواضعه وبساطته بالكثير من الدعابة. ولم يكن مقبولاً في مصر أن تكون مُعتبراً من غير أن تكون ظريفاً، لأن الظرف صُنوّ الذكاء، وأحياناً العبقرية.
ويقوم المسرح الكوميدي الاميركي في غالبيته على السخرية من الذات، أو السخرية الشخصية من العرق والبِشِرة والهوية. وقد اصبح داني توماس اهم ممثل كوميدي في الولايات المتحدة خلال الستينات والسبعينات بسبب النكات الساحرة التي اطلقها عن خاله المهاجر طنوس، وعن المهاجرين الأوائل الذين كانوا يجهلون اللغة والعادات. ولم يطلب أحد منه أن يكف عن “اهانة” اللبنانيين. الذي حدث أن داني توماس، بعد جبران خليل جبران، جعل اللبنانيين إحدى اشهر الجاليات المؤسسة في أميركا. وقد رَفَد العبقرية الفنية الحادة بعمل إنساني عظيم، هو مستشفى سانت جود لمعاجلة الأطفال. ويخيل إليك ان الملحمة البشرية التي تمثلت في تخلي بيل غيتس عن ثروته من اجل عمل الخير مهّد لها على نحو ما، ذلك العمل العالي الذي قام به داني توماس، الرجل الذي كان من اصدقائه المقربين جون ف. كينيدي، والذي بدل أن يمضي حياته في جمع الموسرين من حوله لكي يدفعوا له الخوّات ويعقدوا معه الصفقات، لم يقبل في دائرته الشخصية سوى النبلاء والمتبرعين من المهاجرين الذين لبّوا نداءه إلى العمل الخيري الحقيقي، بعكس زملاء جيله.
طرد هشام حداد من “التيار” ليس قضية وطنية. لكنه أيضاً ليس مزحة عادية. الانشقاقات الحزبية امر طبيعي في الدول النامية. وفي السبعينات ظهر خلاف عقائدي شديد في “منظمة” العمل الشيوعي، التي كان من اركانها عبقري الفِطن محسن ابرهيم، ولمّاح الدعابة السياسية محمد كشلي. وكان كلاهما يربط ذروة المآسي بخفة الظل. وأكثر من أحب جلسة محسن في فكره السياسي ولمعاته الساخرة، كان جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط. وعندما نشب الخلاف بين قيادات المنظمة، بدأت الانشقاقات تتوالى: يوم تقرأ أن كشلي قد انشق، ويوم أن ابرهيم قد انشق ايضاً. وذات مرة دخل الزميل فؤاد مطرالمكتب في “النهار” وقال: “آخر الأخبار يا شباب. لقد انشق محسن عن ابرهيم”.
هذا ليس عقد مقارنات. المقارنة تستدعي وجود مشابهات في الموضوع. ومنذ أن انشق محسن عن ابرهيم وخرج أبو خالد من العمل السياسي، اصبحت توقعاتنا شديدة التواضع، ومع ذلك، بقيت معرضة للصدمات. وربما كان الآتي أعظم. وذات مرة، سألني نسيب لحود، الذي كان يأخذ كل ثانية في حياة لبنان على محمل الجد: “ما الذي يجعلنا نُعجب بمحسن ابرهيم إلى هذا الحد مع أنه كان في الحرب خَصمي شخصياً تقريباً في جميع القضايا؟”. أجبت دون تفكير طويل: الألمعية. فأنت تسعد عندما يكون خصمك أو معارضك على هذا العلوّ من الذكاء. هذه كلها مكونات اساسية تؤدي في النهاية إلى الالتقاء. والدليل أن هذا ما يحدث الآن. فأنت تجلس معه وكأنه صديق من الزمن الماضي، وليس خصماً – وهذا هو شعوره ايضاً بالتأكيد – لقد وجد فيك دائماً ما يحترمه، وهذا في السياسة أمر صعب. وبين الرأسمالي الذي هو أنت، والاشتراكي الحاد الذي هو محسن تكثر المقاييس المشتركة التي لا يراها الفريقان خلال احتدام الصراع.
عندما اعلنت فرنسا، قبل سنوات، الغاء راسين كورناي من منهاج البكالوريا، حرك سعيد عقل جميع مدافعه من الكلية الشرقية على الاكاديمية الفرنسية وحماة التراث الفرنسي. لم يلحظ أبّاتي الآداب يومها أن القرار باخراج الشاعرين الكبيرين صدر بعد وفاتهما الأدبية بعقود كثيرة. فلماذا لم يجرؤ احد مثلاً على عزل موليير، الذي لا يزال حياً في جميع المسارح والمدارس والفنون؟ ومن يجرؤ على أن يمسّ من بعيد بالمسيو فولتير؟ فرنسا مثل بريطانيا مثل ايطاليا مثل اسبانيا واسطورتها الكبرى سرفنتس، أدركت مع السنين، أن اثر الكوميديا في الحياة ليس أقل من اثر التراجيديّات. هكذا نجد أن رجالاً عظماء خاضوا نصف الحرب العالمية الثانية بالسخرية البرّاقة. وبهذه الموهبة سيطر الايرلندي جورج برنارد شو على الحياة الاجتماعية في بريطانيا. قد يتساءل البعض، هل هذا الكلام على هشام حداد أم على ونستون تشرشل؟ الحقيقة انه كلام على المبدأ. أو بالأحرى على سلسلة اخرى من المبادىء التي ابتدأنا نخسرها بسرعة هائلة من دون أي امل في استعادتها. فالاحزاب في لبنان كانت دائماً حزب الرجل الواحد، حتى تلك المؤمنة بالحد الأدنى من الديموقراطية مثل “الكتلة الوطنية”. لكن الديموقراطية التي تجاهلها ريمون اده في الإطار الحزبي، بثها ونشرها ودافع عنها وتعرّض بسببها لمحاولات القتل، ناهيك بالاضطهاد والنفي وملاحقة الرفاق. وكان الدكتور البير مخيبر قد تجاوز التسعين وهو لا يزال يتخذ المواقف النبيلة والصلبة حيال كل فساد أو افتراء. وكم هو محزن أن ندخل دوماً على هدوء تلك الأرواح السامية والنفوس الكبرى عملاً بوصية ريمون اده، الذي كان يكرر دوماً أن على الاجيال الجديدة أن تعرف اننا لم نكن دوماً في هذا السوء، وأن الانحطاط ظاهرة طارئة تأتي وتذهب مع أصحابها.
سمير عطاالله
النهار