كل عام تقيم “لجنة مهرجانات بيت الدين” معرضاً ثقافياً على هامش امسياتها الموسيقية والفنية، لكن معرض هذه السنة كان مميزاً، وأرادت رئيسة اللجنة نورا جنبلاط تخصيصه لتدمر “المدينة الشهيدة”.
لم تمر عاصفة الإرهاب مرور الكرام على تدمر، فشوهتها وخربت آثارها وقتلت انسانها. 10 اشهر كانت كفيلة بتغيير صورة هذه المدينة التاريخية العريقة. بعد يومين من اندحار جحافل الظلام والجهل منها في آخر آذار الفائت، دخلت بعثة من منظمة “الأونيسكو” و”مديرية الآثار والمتاحف السورية” الى تدمر، وهالهم المشهد: لم تعد المدينة كما كانت، وأكلت لؤلؤة الصحراء نصيبها من التدمير والوحشية، وزال العديد من معالمها. لم يشفع بها تاريخها، ولا إدراجها في “لائحة التراث العالمي” للأونيسكو، ولا كل نداءات المديرة العامة للمنظمة ايرينا بوكوفا لحمايتها والمحافظة عليها.
من هنا أتت الفكرة لنورا جنبلاط بإقامة معرض تكريمي لتدمر الجريحة، يعرض آثارها، كيف كانت قبل الارهاب وكيف اصبحت بعده. “الحروب التي تجتاح المنطقة، خصوصاً سوريا والعراق، تدمّر آثار هذه البلاد وتمحو شواهد تاريخها العريق. أردت من خلال هذا المعرض الاضاءة على هذه الناحية المظلمة، ولفت الانتباه الى الاضرار التي تلحق بتراثها الكبير، علَ من يسمع ويتعظ ويهب للمساعدة”، كما قالت جنبلاط لـ “النهار”. أضافت: “قد يكون معرضنا صغيراً نسبياً، لكنه مهم لكونه أول من أضاء على تدمر بهذه الطريقة. صحيح ان الإنسان هو الأهم وهو الذي يموت، ولكن الصحيح ايضاً ان التراث والتاريخ والماضي لها أهمية ايضا، خصوصاً تراث تدمر الذي يخص الانسانية جمعاء كونها مدرجة على قائمة التراث العالمي، ومن الضروري انقاذه والمحافظة عليه”.
39 صورة كبيرة تمثل معالم الموقع الأثري الضخم قبل هبوب رياح ارهاب “داعش” وبعدها، إضافة الى القصف المدفعي والجوي الذي تعرضت له من جيش النظام والروس، و3 تماثيل حجرية تدمرية نصفية تمت استعارتها من متحف الجامعة الاميركية، شكلت العناصر الأساسية لهذا المعرض، في قاعة من عقد الحجر في قصر بيت الدين التراثي.
ومن اجل تنظيمه استعانت جنبلاط بأصدقائها الاختصاصيين: حافظة متحف الجامعة الاميركية الدكتورة ليلى بدر، ومدير الحفريات السابق في سوريا الذي شغل هذا المنصب مدة 12 عاماً بين العامين 2000 و2012 الدكتور ميشال مقدسي الذي جمع الصور من الأرشيف والانترنت والأقمار الاصطناعية بالتعاون مع الاثريين السوريين إيفا اسحق والشيخ موس علي، وندى زينه التي وضعت سينوغرافيا المعرض.
تظهر الصور معبد الاله بعل الذي يعد من احلى واكبر المعابد الرومانية وكان محاطاً بـ 375 عاموداً بارتفاع 18 متراً، دمر بالكامل في 30 آب 2015 ولم يبق منه سوى قطعة من الباب. معبد بعلشمين الذي تحول ركاماً بعد تزنيره بأطنان من الديناميت، ولم يبق منه سوى 4 أعمدة. قوس النصر عند المدخل الرئيسي للمدينة المفتوح على شارع بطول 1100 متر وتزين جانبيه الأعمدة، دمر كلياً ولم يبق منه سوى دعامتين. القلعة العربية من القرن الثاني عشر التي تشرف على المدينة تعرضت للنهب ودمرت جزئياً بفعل القصف. صنم الأسد اللات من القرن الأول قبل الميلاد والقائم عند مدخل المتحف بطول 3 أمتار ووزن 15 طناً، تعرض للتخريب بسواطير “داعش”، لكن تمت لملمة بقاياه لترميمه قدر الإمكان. وخصصت زاوية كبيرة لعرض 3 تماثيل نصفية تمت استعارتها من متحف الجامعة الاميركية، وصور تظهر كيف كانت في الأصل على واجهة نواويس حجرية في المقابر البرجية التي تعود الى القرن الأول، لتدل على الشخص الميت والمدفون فيها.
تقول جنبلاط ان “حضور مهرجانات بيت الدين بلغ 30 ألف مشاهد، فإذا زار نصفهم المعرض نكون حققنا الهدف من اقامته”. وقريبا سينتقل المعرض من بيت الدين الى متحف الجامعة الاميركية في بيروت حيث توجد قاعة صممتها المهندسة زينه، وحيث الجدران تبدو وكأنها من الحجر الرملي وتتلاءم مع طريقة العرض الجدراني ونوعيتها لاستقبال معرض تدمر وفتحه امام الجميع. الى المعرض اصدرت “لجنة مهرجانات بيت الدين” كتاباً من 188 صفحة من الحجم الكبير، وضعه ميشال مقدسي بالتنسيق ايضاً مع ايفا اسحق والشيخ موس علي، وحمل عنوان “سوريا والكارثة الاثرية في الشرق الأوسط، تدمر المدينة الشهيدة “، جمعوا فيه ونسقوا مقالات وبحوثاً وضعها 30 عالما وخبيرا اثرياً وحافظي متاحف عرب واجانب من جامعات ومعاهد ومؤسسات دولية، تناولت تاريخ تدمر وآثارها والكارثة التي حلت بها، الى شهادات عن مدن اخرى تعرضت مواقعها ومعالمها للتدمير في سوريا والعراق ولبنان، مثل افاميا وتل عفيص وماري، واندثرت حضاراتها، لا سيما حضارة ما بين النهرين، خصص لمجزرة المتاحف السورية. وتزين الكتاب صور ملونة للقطع والمكتشفات والمواقع الاثرية والطبيعية والحفريات والمتاحف وخرائط.
انه العنف الذي يمحو تاريخنا ويبيد حضاراتنا لكي نبقى شعوبا من دون ذاكرة وأرث حضاري. فمتى نستفيق؟
مي عبود أبي عقل
النهار