في سابقة بتاريخ العلاقات اللبنانية- الفرنسية، فتحت السفارة الفرنسية في بيروت ابواب قصر الصنوبر أمام اللبنانيين أمس الأحد 18 ايلول الذي تحتفل فيه فرنسا بـ”اليوم العالمي للتراث” فتفتح المتاحف والمقار الرسمية أمام الناس لزيارتها والتجول في ارجائها. وهذا العام ارتأت السفارة الفرنسية فتح هذا المعلم التاريخي لما يشكله من نقطة التقاء لبنانية – فرنسية مشتركة.
وسط اجراءات أمنية احترازية، دخل اللبنانيون قصر الصنوبر حيث استقبلهم السفير الفرنسي ايمانويل بون، وجال معهم وتحدث اليهم والتقطوا معه الصور. وفي لقاء مع الصحافيين شكر السفير الحاضرين، مبدياً “سروره لاستقبالهم في قصر الصنوبر في إطار يوم التراث، حيث يُتاح للجمهور بمبادرة من الدولة الفرنسية، اكتشاف اماكن تشهد على غنى التاريخ الفرنسي وجماله وعراقته، ويسمح له بالدخول الى اماكن ممنوعة عنه في العادة لأنها تستخدم لأهداف اخرى”. وقال: “أردنا ان نفتح قصر الصنوبر امام الجميع، لكونه مكانا مهما في تاريخنا المشترك، ولنؤكد ان فرنسا هي لجميع اللبنانيين أيا تكن انتماءاتهم الثقافية والاجتماعية”، مشيرا الى ان هذا القصر “يستقبل الكثير من اللبنانيين في مناسبات عدة، وحتى نهاية العام الجاري يكون قد استقبل نحو 12 ألف زائر”. وختم مرحبا بالعربية قائلا: “أهلا وسهلا”.
يعتبر قصر الصنوبر معلما تراثيا متكاملا من الناحيتين المعمارية والتاريخية، وقد شهد على احداث عدة مهمة في تاريخ لبنان والمنطقة، أبرزها اعلان الجنرال غورو استقلال دولة لبنان الكبير أول ايلول 1920 من على مدخله، وأدرج في لائحة الجرد العام للمباني التاريخية في العام 1995، ويعد من أجمل مقار السفارات في العالم وأكبرها.
تدمير وترميم
القصر مبني من الحجر الأصفر وهندسته المعمارية مزيج من الطراز العربي- العثماني، يتميز بقناطر حجرية تحوطه من كل الجوانب، وبالأدراج الواسعة المؤدية الى الداخل، وبنوافذه الخشبية والمصنوعة من الزجاج الملون، وعلى الجدران الخارجية آيات قرآنية محفورة على الحجر بالخط العربي. ويتفرد بباب المدخل الضخم والرائع الذي يبلغ طوله 6 أمتار وعرضه 3,50 متر، والمنقوش بكتابات بالأحرف العربية، وبرسوم وزخارف هندسية، ويحوطه حرج واسع من ألف اشجار الصنوبر.
في الداخل تنقل الزائرون بين قاعات القصر وصالوناته الفخمة والتي تنم عن ذوق رفيع يمزج بين الطرازين الأوروبي والشرقي، بعد إعادة ترميم خضعت لها على يد “دار طرزي”، ومن خلالها تولى الابن إميل بعد والده جبران، فك عناصر الديكور الخشبية من نوافذ وأبواب وسقوف وأدراج وغيرها وتأهيلها وإعادة تركيبها.
الصالونات واسعة ومفتوحة على بعضها، تزينها مواقد المدافئ من الجهتين وقطع الأثاث الشرقي والافرنجي بألوان هادئة، وتتوزع في ارجائها لوحات فنية ورسومات وصناديق خشبية مطعمة بنحاس، وتزين سجادة جدارية فرنسية ضخمة حائط غرفة الطعام الكبرى، وفي صالة الموسيقى يقبع بيانو في احدى الزوايا، وتتدلى ثريات من زجاج المورانو من السقف بزهو وجمال. أما الصالة العثمانية التي تعرضت للتدمير الكامل في الحرب، فعادت كما كانت بعد الاستعانة بالصور القديمة، من الجدران الخشبية المنقوشة والمزخرفة الى البركة الرخامية المتعددة اللون في وسطها والتي يمنع خرير مياهها التنصت على الاحاديث التي تدور في ارجائها وكانت استحدثت بين العامين 1928 – 1931، وإلى جانبها مكتب السفير تتوسطه لوحة ضخمة للجنرال غورو يعلن استقلال دولة لبنان الكبير، وصورة للرئيس شارل ديغول ينزل من طائرة في بيروت.
يشكل الخشب العنصر الأساس في الديكور الداخلي والخارجي للقصر، فهو موجود في كل مكان: الأبواب، النوافذ، السقوف الداخلية، تلبيس الأدراج، اللوحات، ومعظمها مزخرف بنقوش مستوحاة من الطراز الدمشقي، صنعت على يد جبران طرزي الأشهر في حينه، ويكمل مسيرته اليوم ابنه اميل، الذي طلب اليه خلال الحرب اللبنانية، رفع الجدران الخشبية وباب المدخل الضخم لانقاذها، ثم اعيدت كلها الى مكانها بعد ترميمها. كذلك خشب الأرز القطراني الذي يكسو الدرج الداخلي، تم تفكيكه وتنظيفه وترميمه واعادته حيث كان.
شملت اعمال الترميم 2800 متر مربع، وحافظت على طابع القصر الخارجي الأصلي. أما من الداخل، فقد أدخلت بعض التعديلات على الديكور، وحافظ على اصالته بالاجمال. كذلك أعيد تشجير الحرج الملاصق بآلاف الاشجار بعد تعرضه مراراً للحريق بفعل القصف المدفعي.
تاريخ في قصر
بدأ تشييد قصر الصنوبر العام 1916، ليكون في الأساس كازينو، بعدما استأجر ألفرد موسى سرسق من بلدية بيروت لمدة 40 عاما غابة تبلغ مساحتها 600 ألف متر مربع، لكن الحرب الكبرى حولته مستشفى ثم ناديا عسكريا. وفي العام 1921 تنازلت عائلة سرسق عن حقوقها الى الدولة الفرنسية لقاء مليون و850 ألف فرنك فرنسي، لكن الأرض بقيت مستأجرة من بلدية بيروت حتى العام 1972 حين تم توقيع اتفاق بين محافظ بيروت شفيق أبو حيدر والسفير الفرنسي فونتين على بيعها، واصبحت ملكا للدولة الفرنسية.
بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، تحول المكان مقر اقامة لجميع المفوضين الساميين من جورج بيكو في العام 1918 حتى الجنرال كاترو عام 1941 . وسكنه الجنرال شارل ديغول عام 1942 بصفته قائدا لفرنسا الحرة. وبعد الاستقلال تحول مقرا للسفراء الفرنسيين. لكنهم هجروه خلال الحرب اللبنانية بسبب موقعه الخطر على خطوط التماس فاحتلته الميليشيات، وعاثت فيه خرابا اضافة الى التدمير الذي طاول اقساما كبيرة منه بفعل القصف والاجتياح الاسرائيلي. وتحول في العام 1982 مستشفى تابعا للجيش الفرنسي ومقراً عاما للمراقبين الدوليين إثر دخول “القوات المتعددة الجنسية” الى لبنان وبقيت فيه 4 سنوات، لتتسلم حراسته بعد مغادرتها قوى الأمن الداخلي ابتداء من 8 نيسان 1986. بعد انتهاء الحرب أطلق الرئيس جاك شيراك ورشة ترميمه اثناء الزيارة الرسمية التي قام بها الى لبنان في نيسان 1996، وعاد بعد سنتين ليفتتحه من جديد في ايار 1998 مقرا لاقامة هادئة ومترفة للسفراء الفرنسيين في لبنان بين أشجار الصنوبر الخضراء والمعمرة.
النهار