لا شك أن السلوك العنصري مدانٌ من أي جهة أتى. لكن التداعيات التي نشهدها نتيجة التهجير القسري الحاصل بوتائر وأحجام لا سابق لها، تستدعي وقفة تأمل وتوصيفاً مختلفاً يتعدى كليشيه العنصرية ليطال ظاهرة العنف ذاتها.
شهدنا ما أثارته قضية البوركيني في فرنسا وما تبعها من تداعيات جعلت بعض البلديات تسنّ قوانين تمنع ارتداءه، مما أثار الكثير من التعليقات، لكن مجلس القضاء الأعلى الفرنسي أوقف تلك القوانين لعدم دستوريتها. مع ذلك استمر النقاش في بلادنا حول عنصرية الفرنسيين ومسَهم الحق بحرية التعبير.
الغريب أن معظم المدافعين عن حرية ارتداء البوركيني شجبوا حرية تعبير صحافيي “شارلي ايبدو” ووجدوا الأعذار للعملية الإرهابية التي مورست بحقهم.
لكن الملفت كان تعليقات بريطانيات يستغربن هذه الضجة التي يفتعلها الفرنسيون حول البرقع والبوركيني، مشيرات إلى أن المسلمات في بريطانيا يرتدين ما يرغبن من اللباس بكل حرية ومن دون اعتراض، في تجاهل ملفت لنتيجة التصويت على “البريكسيت” الذي زلزل بريطانيا والاتحاد الاوروبي. نزعة الانغلاق هذه اعتُبرت نوعاً من الفوبيا من موجة اللجوء السوري والعالم ثالثي لأوروبا. وكما نعلم أن بريطانيا تقيم حاجزاً لإبقاء آلاف المهاجرين خارج حدودها على الشواطئ الفرنسية رغبة منها في تحصين نفسها من هذه الموجة. وهي لم تتعرض لأي من الهجمات الارهابية التي تعاني منها فرنسا منذ سنوات.
ماذا نستنتج من ذلك؟ إن التنظير شيء والممارسة شيء آخر. وأتمنى أن نجد المواقف المتسامحة إذا تعرض الإنكليز لسلسلة العمليات الإرهابية التي حصلت في فرنسا مثل ذبح الكاهن المسن في كنيسته التي كانت تبرعت بقطعة أرض لبناء جامع.
أيضاً تشير تقارير إلى تزايد الهجمات العنصرية والاغتصابات والعنف في ألمانيا، لكن السلطات والبوليس يمنعان الإعلام من الإفصاح عنها خوفاً من الإثارة والبلبلة، مما يفاقم هذه الحالات ويشجع عليها.
تزايد أعداد المهاجرين، بنسبة أقل من 2 في المئة من أعداد السكان، يهدد أمن المجتمعات الغربية وديموقراطيتها.
يهدد اللجوء السوري، الذي تعدت نسبته ثلث السكان، التوازن المجتمعي في لبنان وقد بدأت تظهر آثاره وتداعياته بشكل متزايد على صعيد تصاعد نسبة العنف: من اعتداءات على الأفراد وحوادث طرق إلى تزايد أعداد الجرائم ونوعيتها التي لم تكن معروفة من قبل (ازدياد كبير في الجرائم من قتل نساء إلى تقطيع جثث إلى مقتولين مجهولي الهوية…) كما تحصل توترات أمنية من خلال لجوء بعض النازحين إلى قبول مساعدات ومعونات في مقابل خدمات لبعض الجهات الحزبية التي تستغل ظروف اللاجئين. إلى بوادر نزاعات مسلحة بين السوريين أنفسهم وبينهم وبين اللبنانيين. كل ذلك مرشح لأن يهز الاستقرار ويمكن اعتباره قنبلة موقوتة على المدى المتوسط والطويل.
لماذا تتهدد المجتمعات من اللجوء والهجرات السكانية الكثيفة؟
يوضح علماء الفيزياء الحديثة أن التفاعلات التي تحدث في وعاء فارغ من الهواء تختلف عن تلك التي تحدث في وعاء ممتلئ. أيضاً برهن علماء الأحياء وعلماء الاجتماع وعلم النفس أن هناك حيزاً حيوياً مطلوباً للسماح بحياة جيدة ومتوازنة للكائنات الحية، وأن فقدانه الناتج عن الاكتظاظ الشديد يخل بهذه التوازنات منتِجاً سلوكيات جديدة مهددة وغير متكيفة وعدوانية، ومنها القتل والاغتصاب، أو العنف بأقصى درجاته. هذا لا ينطبق على البشر وحدهم بل على الحيوانات في الأقفاص. ولعلم الايتولوجيا الذي درس هذه الظاهرة فرضية تقول إن ما ينظم التموجات السكانية عند الثدييات هي الآليات الفيزيولوجية كردة فعل على الكثافة. وبرهن على ذلك عندما بيَن أن كثافة أعداد الحيوانات في مساحة معينة تتسبب بالسترس الذي ينتهي بإطلاق ردود فعل من الافرازات الصماء المهلكة أو المميتة.
ويعرف كل من يدرس ميكانيزمات العنف انه يجب ان نأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين البيئة وبين السلوك العنيف في سياق منظومي سيستيمي systemic بالتوافق مع باقي العوامل ذات الصلة، مثل العوامل الوراثية والبيولوجية، العوامل النفسية من إحباط وطباع وشخصية وعوامل التعلم المسبق لكل فرد، كما العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية.
فظاهرة التمدين urbanisation أو مرور المجتمعات من زراعية إلى صناعية مزدحمة يزيد الجرمية ويرفع نسبة الجرائم. ويُلاحظ أن المناطق المحيطة بقلب المراكز التجارية والإدارية للمدن أو ما يعرف بأحزمة الفقر تعرف جُرمية أكبر من غيرها. وانتقال الأفراد، أي تغيير مكان سكنهم الأصلي، الذين يجعلهم غير خاضعين للرقابة الاجتماعية، يزيد من احتمالات ارتكاب الجنح والعنف، لترافقه مع انهيار البنى التقليدية. كما أن البطالة وغياب الأفق أمام الشبيبة والوضعيات الصعبة من دون مخرج تساهم جميعها في زيادة ظاهرة العنف. يطلق بوتول على ذلك اسم “عقدة الإنسان الزائد”.
فما بالك عندما يتعلق الامر بالتهجير القسري بعد التعرض لعنف الدمار السوري، عدا الظروف غير الطبيعية التي تعيش فيها الاسر والتي ستضاعف من هشاشة وضعف توازنها على مستوى التنظيم الداخلي والعلاقات والتكيف.
هذا دون أن نغفل أن اللجوء السوري حصل على خلفية تعرض لبنان لأزمة سياسية اقتصادية اجتماعية خطيرة مرتبطة بالمشاكل الداخلية، إلى الصراع في سوريا. ما أدّى الى انخفاض عائدات التجارة والسياحة والاستثمار وزيادة في النفقات ونقص في الخدمات العامة لتلبية الطلب المتزايد. ويعاني اللبنانيون في المجتمعات المضيفة النقص في موارد المياه والخدمات مما أدى إلى تراجع مستويات الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والصرف الصحي بشكل خاص.
أدى كل ذلك إلى ارتفاع البطالة وهبوط مستوى المعيشة للكثير من اللبنانيين الذين باتوا في مستوى الفقر، حيث تنخفض الأجور، وتكافح الأسر من أجل تغطية نفقاتها… وفي مواجهة تزايد الأعباء التي تتحملها الدولة اللبنانية، تتراجع موارد الدعم المالي للاجئين في لبنان مقارنة مع بقية البلدان المجاورة.
إذن إن ظروف التهجير نفسها والاكتظاظ الناتج عنها تؤدي إلى خلل ديموغرافي على مستوى لبنان، هو نفسه منتج للعنف المتبادل وللسلوك النابذ أو ما نطلق عليه “العنصرية”، والملاحظ على كل حال أنها عالية عند بعض القيادات أكثر من الجمهور بما يحمل من دلالات.
فكيف إذا حصلت على خلفية العلاقات السورية اللبنانية المركبة التي يطبعها تاريخ من التجاذبات وسادتها التوترات خصوصاً منذ استقلال البلدين الذي رفضته بعض القوى السياسية والقومية واعتبرته “سلخاً للبنان عن سوريا”. ناهيك عن فترة الهيمنة السورية على لبنان قبل خروج الجيش السوري عام 2005 إثر الانتفاضة الكبرى. دون أن ننسى مسألة أخرى تتداخل وتتشابك مع هذا اللجوء المستجد ألا وهي قضية اللجوء الفلسطيني ورهاب اللبنانيين، حكومة وشعباً، من التوطين.
ذلك كله يلقي بظله الثقيل على المواقف المتعددة من اللاجئين السوريين. لذا عند معاينة مسألة اللجوء وكيفية التعامل معه، يجب أخذ تلك الأمور مجتمعة بعين الاعتبار.
بينما نجد أن بعض وسائل الإعلام تبحث عن الإثارة والخبطات الإعلامية فتعرض الحوادث وتضخمها لزيادة اعداد المتفرجين.لكن الملاحظ عموماً أن البلدان الأوروبية التي تتعرض للممارسات العنفية وللهجمات الإرهابية تحرص على منع عرض الجثث المشوهة والمقطعة. نرى آثار العمليات على الأماكن والممتلكات لكن تغيب الذبائح البشرية، حرصاً على الكرامة البشرية وأمن وسلامة المشاهدين النفسية من مشاهد العنف الوحشية.
إن وجود سلوكيات عنصرية لا يمنع ان معظم فئات وشرائح الشعب اللبناني احتضنت وساعدت وساهمت في استيعاب هذا اللجوء قدر استطاعتها. والدراسات تؤكد أن وسم الآخر – الجماعة أو شعب بكامله بصفة العنصرية أفضلُ هدية أخلاقية للمتعصبين، مما يزيد في تماسك نسيجهم الاجتماعي ويقوي هويتهم وانتماءهم العصبوي.
بانتظار الفرج مع حلول وسياسات ناضجة ونزيهة، لا يفيدنا إظهار السلبيات فقط وتعميم فكرة أن الشعب اللبناني عنصري ورافض للجوء السوري يرفع نسبة المخاطر التي تتهددنا. لذا، ومن اجل مستقبل العلاقات بين الشعبين، من الأجدى التركيز على الإيجابيات أيضاً، وليس فقط تضخيم السلبيات.
منى فايض