تشكّل دافعية الموظف أو العامل المرؤوس مشكلة، يعاني منها كذلك ربّ العمل ومَن هم في مراكز المسؤولية العليا في المؤسسات العامة والخاصة. صحيح أنّ العامل المأجور يأتي من مجتمعات مختلفة، ومستويات اقتصادية وثقافية متنوّعة، إلّا أنّ المشكلة واحدة على أرض العمل، أي، مهما ارتفعَ شأن المأجور، هناك من يَرأسه، ويملي عليه القوانين والأنظمة، خصوصاً في المؤسسات التي تعتمد نظام التسلسل الهرمي.
هل يتأثّر مستوى الإنتاجية بالعلاقة بين الرئيس المباشر والمرؤوس، هل تُعتمد أحكام المدير بحق العامل على أساس الموضوعية؟ وهل التقييم بريء من الانعكاسات والمؤثرات والميول الشخصية غير المجرّدة؟
هل يَشعر من هو في المركز الأدنى بالرضى والانتماء؟ إلى أيّ مدى مسموح له إيصال صوته في حال شعوره بالظلم؟ هل بإمكانه التعبير عن الممارسات غير المحِقة؟ هل يتلقّى التقدير والشكر على ما يقوم به من إنجازات؟ وكيف يؤثّر كلّ ذلك على دينامية العمل والإنتاجية؟
الحكم والدافعية
الدافعية في العمل شعور في داخل الإنسان، وهي قدرته على العمل، التي تمكّنه مِن القيام بنشاط أو عمل معيّن. يختلف مستوى الدافعية بين شخص وآخر بشكل ملحوظ. وهي تتعلق مباشرةً بالحاجات والقيَم والأهداف والطموحات والتوقّعات الشخصية لكلّ شخص.
ولأنّ الدافعية والاندفاع ينبعان من الداخل الإنساني، يستطيع الرئيس المباشر في مكان العمل التحكّمَ بهما من خلال تحديد وفهم قيَمِ وميول وحاجات وطموح المرؤوس، والتعامل معه بذكاء وحنكة.
كلّما زاد عدد الأجَراء في المؤسسات، زادت الحاجة لإتقان كيفية الاستفادة من دافعية هؤلاء الأشخاص، عن طريق الاستجابة لحاجاتهم، والتخفيف ممّا يستثير قلقَهم وخوفهم، بالإضافة إلى إشعارهم بالتقدير والاحترام.
فكلّ إنسان مهم بحسب العمل الذي يقوم به، مهما انخفض مستواه التسلسلي. وكيف للمدير المباشر العمل على الداخل النفسي للمرؤوس دون أن يعرف شخصياً ذلك الإنسان الذي يتساوى معه في الإنسانية، وربّما، يتفوّق عليه في مكان ما، إجتماعياً أو ثقافياً، إلّا أنّه بمرتبةٍ أدنى في مكان العمل.
إنّ احترام الآخر واجب من حيث المساواة والعدالة الاجتماعية، إذ «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين»، ومن ثمّ تلعب وزنات كلّ فرد دورَها، والوزنات هنا هي المركز الذي يحتلّه كلّ إنسان في عمله.
ليس بالأمر السهل على الرئيس المباشر في العمل أن يعرف مقوّمات الأدنى منه مرتبةً، دون الاطّلاع على القدرات والمهارات التي يتمتّع بها، والتعرّف عليه شخصياً، ودون أن يضعَ نفسَه مكانَه، ولو صورياً، وبعدها يصدِر أحكامه بحقّه، والتي على أساسها يُرفع أو يغرق.
طبعاً لا نستطيع أن نعمّم، فليس كلّ العاملين في المؤسسات محطَّ ثقة، وأصحابَ ضمير ومسؤولين حيث هم. فهناك الانتهازيّون والوصوليّون الذين يستغلّون أماكن عملهم، ويجيدون استباحة الرزق والمال والسلطة.
كما أنّ العلاقات الشخصية المميّزة بين الرئيس والمرؤوس، من هدايا وكلام معسول، تساهم غالباً في تبوُّء الأدنى مرتبةً المنصبَ تلوَ الآخر، بفِعل الإشادة بإنجازاته من قبَل المدير المدلَّل.
عملياً، يرتفع منسوب الإنتاجية لدى العامل الذي يشعر بالرضى والفخر والغرور ربّما، لكن، ماذا عن إنتاجية من يتساوون معه مرتبةً، ولا يروقون للمدير المباشر؟ ماذا لو لم يشعر المدير المباشر بالانسجام مع العامل؟ فربّما ذكّره العامل بشخص آذاه في الماضي، وماذا بالنسبة لمن ليس بارعاً بـ»تبييض الوِج»؟ ماذا لو سبَقه آخرون بشائعات وأمور لا تروق للمسؤول المباشر؟
النموذجان، الأوّل والثاني، أي من يَحصل على التقدير والترقيات المعنوية والمالية، والإستثناءات؛ والآخر، غير الراضي، الذي ربّما ليس فقط لا يُعطى، بل ويؤخَذ منه، لأسباب وانعكاسات نفسية-شخصية للمسؤول المباشر عنه، أو ببساطة بسبب عدم إنجذابه له، نموذجان حقيقيان واقعيان، في مجتمع يمتزج فيه العمل مع الحياة الشخصية والمصالح الفردية.
كيف تتغذّى الدافعية في العمل؟
الدافعية للعمل هي أهمّ ركائز الإنتاجية المهنية، تليها الخبرات السابقة، المهارات، جوّ العمل العام، وغيرُها. أمّا الأمور التي تغذّي الدافعية للعمل فكثيرة، ومنها:
• التعامل مع كلّ عامل على أنّه حالة خاصة، وبالتالي الاطّلاع على ملفّه كاملاً، ما يَشمل الكفاءات والمهارات وعددَ سنوات العمل، بالإضافة إلى التعرّف إليه شخصياً، مع الاستماع إلى آرائه وانطباعاته، أهدافِه وطموحاته، وربط ذلك بواقع المهنة.
• إطلاع العامل على القوانين التي تخضع لها المؤسسة، بما في ذلك حقوقه وواجباته، الممنوع والمسموح.
• التعامل مع جميع العاملين بالتساوي من حيث الخصوصية والتميّز، أي إبعاد العلاقات الشخصية والمحسوبيات عن مكان العمل.
• إعتماد مبدأ المحاسبة، المكافأة والعقاب بحسب الإنجازات والمخالفات، بناءً على معرفة أنظمة وقوانين العمل، مع وجود مرجع مختص لمراجعة مدى أحقّية قرارات المسؤول المباشر، قبل تنفيذها.
• الموضوعية القصوى في المكافأة والعقاب.
• التعامل مع كلّ شخصية بحسب سماتها الخاصة، لحَثّها على رفع مستوى إنتاجيتها في العمل، من خلال الدافعية.
• إعتماد المرونة والليونة والإيجابية مع العامل في الأوضاع الخاصة.
• الطلب من العامل إبداءَ رأيه في ما يخصّ المشاكل في العمل ورفع مستوى الإنتاجية، والمناقشة وطرح الحلول.
• الاستماع إلى ما يعاني منه العامل، ومساعدته على إيجاد الحلول المناسبة.
• مناقشة الإضافات والعلاوات الماليّة التي يتوقّعها العامل.
• جوائز أو مكافآت للعامل، كالأنشطة مثلاً، ما يحفّز الجميعَ على بذلِ المزيد من الجهود.
• الابتعاد قدر المستطاع من الرتابة والروتين في أجواء العمل، عن طريق تغيير المسؤوليات وتنويعها.
كيف تنعكس الدافعية على المؤسسة؟
تلعب دافعية العامل في المؤسسات دوراً أساسياً ومباشراً، ينعكس سلباً وإيجاباً على مستواها الإنتاجي، وعلى تصدّرِها المراتبَ على لائحة منافسيها. فطريقة التعامل مع الزبائن بترحيب وإيجابية، أو العكس، إمّا تَحملهم للتعامل مع المؤسسة من جديد، وجذب المزيد منهم، أو تدفعهم للّجوء إلى المؤسسات المنافسة.
والزبائن هم مصدر المال لاستمرارية المؤسسات، وتراجُع أعدادِهم ينعكس تراجعاً على المؤسسة بشكلٍ تلقائي. كما يؤدّي غياب الدافعية إلى نشرِ صورةٍ سلبية عن المؤسسة على لسان «أهل البيت» العاملين فيها، وإلى صراعات ومشاكل شخصية ضيّقة بين المأجورين.
إنّ الرضى والإيجابية في الجوّ العام، مع التفاني لكلّ ما فيه مصلحة المؤسسة، ينتج عن شعور العامل بالتقدير والعرفان على كلّ إنجاز يقوم به. وإلّا أدّى ذلك إلى إهمال مِن قبَله، وعدم رغبة بالعطاء، وتصيّدِ الفرصِ للهروب من مكان العمل، والقيام بالعمل كواجبٍ خالٍ من الدافعية والعطاء الشخصي، كما يَقتصر عمل البعض أحياناً على التواجد في مكان العمل، لا أكثر.
إنّ إصابة العمّال بالإحباط جرّاء الشعور بعدم الرضى والتقدير والفعالية، والاستمرار رغم ذلك بالتواجد قسراً في مكان العمل بسبب الحاجة الاقتصادية، تؤدّي إلى شعورهم بعدم الانتماء، وإلى إصابتهم بأمراض، فيتغيّبون عن مكان العمل لأسباب صحّية، قد يستمرّ غيابهم أحياناً لفترات طويلة، ما يزيد من الفوضى في المؤسسة، والإهمال.
ترتبط الإنتاجية بشكل مباشر بحاجة الفرد للتقدّم، وللمزيد من النجاح وإثبات الذات، وبحاجة داخلية، تظهَر من خلال المجهود والسعي لذلك في مكان العمل، أي الدافعية. كما ترتبط بالحاجة للأمان والاستقرار والحماية التي يؤمّنها الجوّ الملائم في مكان العمل. ولا يمكن فصلها عن حاجة الإنسان للانتماء. الانتماء المعنوي والعاطفي، حيث يجد العديد من الأشخاص وطناً وعائلة في المؤسسة التي يَعملون فيها.
لذلك تبدو خيبات الأمل شديدةً ومبالغاً فيها لدى بعض الأشخاص في ذلك المكان، ما يدفع المدير المباشر إلى إتقان فنّ رفعِ مستوى الدافعية لدى مرؤوسيه، فيتعامل مع كلّ شخص بحسب حاجاته، ومهاراته، ونقاط الضعف والقوّة لديه، للتوصّل إلى إنتاجية أعلى، في سبيل خدمة المؤسسة العليا.
فالمؤسسات والشركات تقوم على أكتاف العاملين فيها صغاراً وكباراً، والبشَر عنصر أساسيّ لبناء الحجر؛ فلماذا لا نجعل هذا العنصرَ راضياً معطاء غيرَ متذمِّر، فيحقّق كلٌّ مِن العامل والمؤسسة أهدافَه وطموحاته.
ساسيليا دومط
الجمهورية