نشأت الأوطان الحديثة في المشرق العربيّ بعد انهيار الدولة العثمانيّة، لكنّ الكنائس لم تتقسّم على قياس الدول الوليدة، بل أصرّت على كونها عابرة للحدود وعابرة للأوطان. فوحدة الحال بين أبنائها، لبنانيّين وسوريّين وعراقيّين وفلسطينيّين وأردنيّين…، أقوى من أن تفصم عراها حدود سياسيّة أو إداريّة.
لا يأتي هذا الكلام من منطلقات حزبيّة أو من خيارات سياسيّة راهنة، بل هو متجذّر في وعي الكنائس كلّها لهويّتها وشهادتها. ولا يسع أحدًا أن يشكّك في ولاء أبناء هذه الكنائس لأوطانهم، ولكنّ معظمهم يرى أنّ ولاءه الوطنيّ لا ينفي بأيّ حال التزامه بقضايا باقي أبناء كنيسته المنتمين إلى كامل الأرض الأنطاكيّة.
إبّان ما سمّي “عصر النهضة العربيّة” الممتدّ من بدايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، تبنّى المسيحيّون المشرقيّون، أو معظمهم، الأفكار التي أنتجها عصر الأنوار الأوروبيّ. فرأوا في كلّ من المواطنة والعلمانيّة والاشتراكيّة والقوميّة العربيّة أو السوريّة قواسم مشتركة، لغويّة أو حضاريّة أو ثقافيّة أو وطنيّة أو جغرافيّة أو اجتماعيّة أو إنسانيّة، تجمعهم ومواطنيهم وشركائهم في المصير الواحد من المسلمين وسواهم من أبناء المنطقة. ورأوا في هذه الأفكار بابًا إلى تحرّرهم من هيمنة الدولة المتلبّسة بالدين والتي تحرمهم من حقوقهم الطبيعيّة في ممارسة مواطنتهم الكاملة من دون أيّ انتقاص. لقد كانوا رأس الحربة ضدّ الجهل والاستعمار والانتماءات الطائفيّة الضيّقة، وضدّ هيمنة الفكر الدينيّ المتخلّف والخلط ما بين الدين والسياسة.
اللافت، اليوم، هو أنّ أحفاد المسيحيّين الذين أطلقوا فكرة العروبة الجامعة لكلّ أبناء المنطقة، هم أنفسهم باتوا يحاربون هذه الفكرة. فيتناسون أنّ أجدادهم، حين تبنّوا العروبة، لم يتبنّوها على أساس عرقيّ أو سلاليّ، بل هم تبنّوها لتكون قاعدة للشراكة الوطنيّة والمساواة، بعيدًا عن الحكم الدينيّ، الإسلاميّ تحديدًا. لذلك حارب الإسلاميّون فكرة العروبة إلى حدّ تكفيرها لدى بعضهم، ويتمثّل بهم اليوم أحفاد يكفّرون أجدادهم على خياراتهم.
لم يكن مسيحيّو بلادنا، في يوم من الأيّام، أمّة عرقيّة واحدة في الإطار السياسيّ أو الاجتماعيّ. هم أمّة واحدة في الإطار الكنسيّ، هم “أمّة مقدّسة” كما قال القدّيس بطرس الرسول. لكنّهم لم يشكّلوا أمّة دينيّة أو قوميّة دينيّة، ولم يسعوا يومًا إلى إنشاء وطن قوميّ لهم على غرار اليهود الذين يتباهون بأنّهم ينتمون إلى قوميّة دينيّة يغلب عليها الطابع الدينيّ، طابع “شعب الله المختار”.
في بلادنا، حمل المسيحيّون لواء الشراكة في المواطنة مع المسلمين، ولم يكن هاجس القوميّة أو الطائفيّة ليطغى على روح الشراكة مع مواطنيهم من المسلمين. فمن “الجامعة العثمانيّة” إلى “القوميّة العربيّة” أو “القوميّة السوريّة” أو “المواطنة اللبنانيّة”، نجد أنّ المسيحيّين قد تبنّوها لأنّها تجمعهم مع المسلمين ولا تفرّقهم عنهم. ولنا في مواقف البطريرك الأرثوذكسيّ غريغوريوس الرابع حدّاد (+1928) المثال الساطع. فقد أيّد الجامعة العثمانيّة، ثمّ أيّد لاحقًا الحركة العربيّة، و”كان الأمر عنده ليس خيارًا أيدلوجيًّا كما هي الحال عند المثقّفين العلمانيّين”، وفق الدكتور طارق متري. فالبطريرك حدّاد قال في خطاب لمناسبة صدور قانون التجنيد (1908) تعادل فيه المسيحيّون مع المسلمين في السلطنة: “الحمد لله الذي جمعنا في الإنسانيّة والوطنيّة ووحّدنا في الجامعة العثمانيّة”. ثمّ هو نفسه أيّد الحركة العربيّة، ولم يكن في ذلك تناقض مع موقفه السابق، لأنّ الأساس الذي بنى عليه موقفيه إنّما هو الشراكة مع المسلمين وليس التنازع.
عندما سعى اليهود إلى وطن قوميّ لهم على أرض فلسطين، انخرط المسيحيّون في خيارات قوميّة ووطنيّة وعلمانيّة جامعة، ورفضوا أيّ تقوقع طائفيّ أو دينيّ. أليست العودة إلى الخيارات القوميّة الدينيّة خيانة لفكر المسيح نفسه الذي قضى على القوميّة الدينيّة اليهوديّة، فقتلته المؤسّسة الدينيّة اليهوديّة لأنّها اعتبرته خطرًا على الأمّة، أمّة اليهود؟ ألا يقتل هؤلاء المسيح ثانية بارتدادهم إلى الجدران المغلقة للطائفة، إلى يهوديّة مقنّعة بمسيحيّة من هذا العالم؟ ألا يخونون مبدأ المسيح القائل: “أنتم في العالم ولستم من العالم”؟
الأب جورج مسّوح