ما زالت الحرب اللبنانية التي وضعت أوزارها منذ ربع قرن، وما خلّفته من آثار في ميادين مختلفة، أمادية كانت أم معنوية، موضع اهتمام مجموعة من الفنانين التشكيليين، ممّن شاهدنا أعمالهم على مدى العقدين المذكورين، ناهيك بما تمّ إنجازه خلال زمن الحرب نفسها. كان من الطبيعي أن تتنوع المقاربات تجاه هذا الموضوع، الذي يبدو أنه ما زال يحتمل المعالجة، وهذا ما نراه في أعمال سهام عجرم المعروضة لدى غاليري «فن في 56»، وذلك تحت عنوان «رغم كلّ الصعاب».
لكن الحرب ليست سوى الخلفية البعيدة، غير المرئية وغير الواردة في شكلها الواقعي الملموس في أعمال عجرم. نحن نتحدث، هنا، عن مؤثرات وتباينات كامنة في التركيبة الذهنية لإناس مختلفي التطلّعات والاتجاهات، وهذه التباينات أدّت، في ما أذّت إليه، إلى حالات صراع بين الإنسان ومثيله، وما الحرب الأهلية سوى أحد الأشكال المباشرة والعنيفة لهذ الصراع، الذي أدرك الكثيرون عبثيته بعد فوات الأوان. بالرغم من ذلك، أي من إدراك هذه العبثية وتفنيدها ممن رفض منطقها، ما زلنا نرى أشكالاً أخرى من التباين والخلافات بين البشر، تتخذ في بلدنا أشكال المراوحة والقلق وعدم الاستقرار، وفي بلدان مجاورة أشكال العنف المتمادي الذي لم يوّفر شيئاً أو احداً.
قلق
أعمال سهام عجرم، وعلى ما لاحظنا، تحمل مفاعيل هذ القلق الخارج من الدمار، والمتجسّد على نحو واضح في شخصيات اللوحة، التي غطّى وجوه بعضها وشاح تقولب أحياناً ليتخذ شكل الوجه، ما سمح برصد تعابير صاحبه، المترافقة مع يده المرفوعة في الهواء في إشارة إلى سؤال لاجواب له. أما ذاك الـ «كوبل»، في اللوحة التي تحدّرت منها تسمية المعرض: «رغم كل الصعاب»، المغطّى الوجهان بدوره، فيتعانق طرفاه الواقفان في برميلين، ضمن مشهد مديني طاولت أبنيته القذائف وطلقات الرصاص… إلى ذينك الطفلين الجالسين، هما أيضاً، أمام الخراب يقرآن في كتابين، ويُضاف إلى ذلك مشاهد لأبنية جوفاء لا أثر فيها للحياة وقد تشلّعت أطرافها، وأخيراً تلك القامات الأربع التي تبدو «محشورة» في إطار اللوحة… إلى أعمال أخرى. أرادت سهام عجرم أن ترسم عالماً خاوياً في مدينة يسكنها البشر، كدلالة أخرى على انفصال الإنسان عمّا يحيط به، فجاء العديد من لوحاتها مصحوباً بمسحة من التشاؤم، ضمن أجواء خيالية في معظمها، ما يمكّننا من القول إن العديد من تلك الأعمال هي ذات وجهة سريالية، كما يدفعنا هذا الحكم إلى الاعتقاد بتأثّرها بأعمال السريالي رينيه ماغريت، ولو في شكل مقتطع وجزئي. وبرغم ذلك كله، أي برغم المعوقات والمشكلات، تستمر الحياة وتستمر الخليقة في خوض غمارها، متمسكة بالأمل الذي لا بدّ منه.
أسلوب سهام عجرم واقعي في مجمله، على أنها رسمت شخصياتها من موقع غير أكاديمي تماماً، لذا، لن يكون علينا أن نحاسب بعض «التجاوزات» في ما يختص بطبيعة الرسم، التي تختفي عملياً وراء الانطباع العام الصادر عن الأعمال. أما في ما يختص بالخيارات اللونية، فهناك عدد من اللوحات ذات طابع لوني «مونوكرومي» يطغى عليها الرمادي، وهذا اللون كثير الحضور في أعمال عجرم، وإن اختلط أحياناً بألوان ترابية، ثم تأتي الألوان الداكنة كي تكوّن اللمسات الأخيرة التي من شأنها أن تمنح العمل مزاياه الغرافيكية والخطوطية من جهة، وأن تمنحه، من جهة أخرى، أبعاده الدرامية التي، وبحسب صانعته، لن تكون عائقاً أمام الإنسان المقبل على الحياة وإرادة البقاء.
(]) يستمر المعرض إلى 5 كانون الثاني في غاليري «فن في 56» – الجمّيزة
محمد شرف
السفير