عشرات الأفلام العربية والأجنبية تُعرض في مهرجان دبي السينمائي الذي بدأ مساء أمس ويستمر إلى 14 الجاري. في الآتي جولة على ثلاثة أفلام لمخرجين لبنانيين مكرسين سيعرضون جديدهم للمرة الأولى على جمهور هذه التظاهرة الثقافية البارزة في المنطقة التي تدخل هذه السنة عامها الـ13.
“اسمعي” لفيليب عرقتنجي
بعد نحو ثماني سنوات على فيلمه الروائي الطويل الأخير، “تحت القصف”، يعود المخرج اللبناني فيليب عرقتنجي بفيلم جديد، “اسمعي”، من بطولة يارا بو نصّار وربى زعرور وهادي بو عياش. “إنه قصّة حبّ تنطوي على شيء من التحدّي. في بيروت توتّرٌ هائل. بالنسبة الى بعض الغرب، لا يتخطّى ما يجري هنا مجرّد مَشاهد ساذجة. قد تقتصر النظرة على اعتبار أن ما يُصنع في لبنان قوامه الفوضى والتخبّط”، يقول المخرج عن فيلمه.
جود شاب وسيم، منغمسٌ بشغفٍ في مهنته كمهندس صوت. غير إن حياةَ جود، المنطوي على نفسه، تتغيّر جذرياً عندما يلتقي رنا، صاحبة الشخصية المُناقضة تماماً لشخصيتِه، بروحها الحرّة والنابضة بالحيويّة، فتبدأ قصة حبّ ملتهبة بينهما، مع أنهما من خلفيّتين اجتماعيّتين وطائفتين مختلفتين. يصاب جود بصدمة كبيرة، والأسوأ أن أهل رنا يمنعونه من زيارتها. يقرّر جود أن يحاول إعادة حبيبته بإرساله إليها أصواتاً من الحياة، مليئة بالفرح والتفاؤل، على أمل أن تُّذكّرها بأن الحياة جميلة، وتدفعها إلى التمسّك بها.
يقول عرقتنجي: “السمع في الغالب صفة أنثوية، والرجل حين يُصغي قد يُتهَم بالضعف. لماذا على الرجل أن يحارب ويصرخ طوال الوقت؟ لماذا لا يستمع إلى الآخر؟ الفيلم هو أيضاً عن الوفاء. تحوط البطل جميلات يُغرينه، لكنّه يتمسّك بالصدق حيال المرأة التي يحبّ. الإخلاص تيمة أخرى كالسمع، والفيلم عن بيروت ونسائها وإنما بغير نَفَس”. لا يخفي عرقتنجي انه واجه خلال التصوير هو وفريق العمل بعض التوتّر جرّاء التصوير في ظلّ تراكم النفايات. الأوساخ كانت تملأ الطرق (ولا تزال) في مشهدية مرعبة، فشعر أنّه لا بدّ من التحرّك. يقول انه كان في الإمكان تصويره في مدينة أخرى تعاني إشكالية الصوت، لكنّ وضع بيروت مغاير”.
عن النبرة الجريئة التي سيتسم بها الفيلم، يقول صاحب “بوسطة”: “لا أقصد الجرأة الجنسية، بل جرأة النظرة إلى بيروت. صوّرتُ نحو 90 في المئة من مَشاهد الفيلم في العاصمة، ومشهدين في الشوف وواحداً في عمشيت. عملنا لشهرين في التحضير قبل أن نباشر التصوير. هو فيلم محض شبابي، تراوح أعمار ممثليه ما بين 25 و30 سنة. حتى مدير التصوير كريستوفر عون شاب. جميعهم يعملون على فيلم للمرة الأولى، من غير أن يعني ذلك عدم الاحتراف. أنا وراءهم”.
خلال التصوير، واجه عرقتنجي هاجس الصوت. بيروت في ضجيج هائل لا يكاد يُحتمل. كان لا بدّ من سؤال العاملين في الورش الهدوء بعض الشيء لإنجاز المشهد. يقول انه التقط بيروت من زاوية مغايرة. هو فيلم الغرام مع المدينة. فجأة، يعلق: “سأعترف بأنّه قد يكون فيلم الطلاق معها أيضاً. أنا من المغرمين ببيروت، لكنّ هذا الفيلم قد يكون آخر ما أُنجزه عنها. عشتُ في فرنسا نحو 16 عاماً، وأنجزتُ نحو 40 وثائقياً. “تحت القصف” إنتاج مشترك بين فرنسا ولبنان، صوّرته في المكان اللبناني وأخضعته للمونتاج في فرنسا. تطلّب إنجازه سنتين. عدتُ إلى لبنان فوجدتُ كثافة الضوضاء. لا أعني السيارات والزحمة، بل ضجيج المدينة. هذا محفّز للإبداع شرط توافر الروح الخلّاقة”.
“يا عمري” لهادي زكاك
في “يا عمري”، يتابع هادي زكاك عبر السنوات شيخوخة جدّته هنريات، التي تخطّت المئة عام، ويرصد تحوّل الذاكرة والهجرة من لبنان إلى البرازيل، وقصص الحب والأولاد، والوقت المعلّق. فيلم عن سيرة شيخوخة وذاكرة وحياة. أنجز زكاك بعضاً من أهم الأفلام الوثائقية اللبنانية في السنوات الأخيرة، متجاوزاً النظرة الدونية الملقاة على الفيلم الوثائقي. هناك فكرة خاطئة انه يجب أن تفضي التجربة الوثائقية لدى مخرج من المخرجين الى السينما الروائية، يقول عنها مخرج “كمال جنبلاط”: “عبر السنوات، استطعتُ التغلب على هذا الهاجس وتصالحتُ مع الوثائقي. عندما يحلم المرء بالسينما، لا يحلم بالوثائقي بل بالروائي (…). وتأكيداً لما تقوله، لا يزال الناس الى اليوم، يسألونني: “متى تنجز فيلماً؟”. في المقابل، اجد انه في السنوات الأخيرة، وتحديداً في لبنان، مستوى الأفلام الوثائقية افضل من الروائية. على الاقل لدى هذه الافلام ما تقوله. الروائي مركّب وفيه شيء غير صادق وهناك دائماً العقدة التي تفرض علينا أن نثبت للآخر أننا نستطيع أن ننجز افلاما مثل التي ينجزونها. هناك حقل اختبار أوسع في الوثائقي وليس لدينا ما نثبته من خلاله”.
“نار من نار” لجورج هاشم
“نار من نار” هو جديد المخرج اللبناني جورج هاشم، صاحب “رصاصة طايشة”. أندره، مخرج لبناني مقيم في فرنسا يلتقي مصادفة، وبعد طول غياب، رفيق صباه الحميم وليد. لقاء غير محسوب العواقب، بين رجلين تملّكهما، الواحد كما الآخر، في ما مضى، إبان الحرب الأهلية في بيروت، شغف بالسينما التي طمحا إليها، وشغف بامرأة تدعى أميرة، أحبّها كلاهما. صوّر الفيلم بين بيروت وباريس مع مجموعة من الممثلين اللبنانيين في مقدمهم المسرحي اللبناني الكندي البارز وجدي معوّض في أول دور سينمائي له. بيد انه، بالرغم من الظروف الانتاجية الصعبة والموازنة الشحيحة التي يتبلور المشروع في اطارهما، لم يعتزل هاشم الأمل في ايصال سفينته السينمائية الى شاطئ الأمان، لا بل يصر على لبنانية مشروعه. عمل هاشم بفريق عمل كوزموبوليتي متجانس، فمدير التصوير ليس سوى اليوناني اندرياس سينانوس الذي عمل على أهم أفلام انغلوبولوس.
عن الجانب الانتاجي، يوضح هاشم: “مرغمٌ أخاك، لا بطل”، يقول المثل، وفي الوقت عينه، أجدني فرحاً بالنتيجة. لستُ من هواة الفقر أو القلّة، لكنني أمام أمرٍ واقع. لنقل مثلاً إنه ينبغي تصوير أربعة مَشاهد سرد في يوم واحد، فقد أعتبر أن ثلاثة منها كافية شرط أن أتيقّن من ذلك، فأختزل الموقف من غير أن أشعر بالندم. لا بدّ من الاقتناع بما تفعل. لكنّك إن أمضيت السنوات في “علك” السيناريو، فسيعود بالضرر على المشروع. يشبه الأمر القماش (الخام) والفستان. يصبح القماش فستاناً شرط عدم فقدانه جوهره. ما الذي يدفعك الى الانتقال من الثوب الى الفستان؟ هذا التحدّي الذي أحبّه. وتروقني رؤية السيناريو مُجسَّداً يتكسّر ويصرخ، ثم يتألم في اللحظة المناسبة. تحضر مرحلة المونتاج في رأسي بينما أُصوِّر. إن وجدتُ أنه لا طائل من إحدى اللقطات، لا أعمد في الأصل الى تصويرها، خشية إهدار الوقت. أمارس “إجراماً” على ذاتي كمُخرج في هذا السياق”. استقررتُ في لبنان عام 2006، وتتالت المشاريع، فاستعدتُ رمق تواصلي مع البلد بعد 23 عاماً أمضيتها في باريس. وإثر عودتي الى باريس ثانية، شعرتُ بأن نحواً من نصف عمري مرّ على مكوثي هناك. أشتاق الى سلاسة العيش والأشياء المنظمة، وإن كنتُ أتبنى فوضى بيروت، بصرف النظر عن كونها “خلّاقة” أو غير ذلك مما قد تعنيه هذه المفردة المستهلكة. في باريس، يساعدك القانون ويسهّل شؤونك. أيامٌ قليلة على مكوثك فيها كفيلة أن تشعر بأنها مارد. تروقني فكرة أن 18 ساعة في لبنان تخوّل المرء فعل أشياء كثيرة، وزيارة الأماكن ومقابلة أعدادٍ من البشر، ثم اختيار العزلة إن شاء. في مدينة مثل باريس، لا يكاد يكفي هذا الوقت لإنجاز مهمَتين على مسافات متباعدة. لقد تغيّرت بيروت كثيراً، حدّ الظنّ أنها انتقلت، في بعض زواياها، الى مكان آخر”.
النهار