تتجاوز اللغة تعريفاتها التقليدية من كونها أداة للتواصل والتفاهم بين الناس، لتتحول من خلال تعريفها الفلسفي إلى تمظهر موضوعي للواقع. تعتبر اللغة، في هذه الحالة، ظاهرة موضوعية خارجية وفي الوقت نفسه ذاتية إدراكية، بوصفها تشكل التماثل الجذري بين الإنسان والعالم. لهذا نجد بأن اللغة على صلة مباشرة بالواقع، باعتبارها مطابقة للوجود على قاعدة أنه لا موجود لا يعبر عنه بلغة، كما ليس ثمة لغة لا تعبر عن موجود ما. وهي أيضا ملازمة للفكر، بمعنى أنه لا يمكن استحضار التصورات الذهنية والفكرية من دون قوالبها اللغوية. فالفكر ـ كما يقول بعض الفلاسفة اللغويين – هو اللغة واللغة هي الفكر، حيث لا تفكير من دون تعبير كما لا تعبير من دون تفكير.
إلى ما تقدم، فإن اللغة هي الظهور الماهوي للشعوب والأمم. إنّها تعكس المستوى الفكري والثقافي والاجتماعي والفلسفي والإيديولوجي للنّاطقين بها. كلّما ارتقى شعب، ارتقت معه لغته، وبمقدار ما يصيبه من انحطاط وتخلّف، فإن الأعراض أول ما تظهر على اللغة بما تمثله من وعاء يحوي كل محددات الحضارة وعناصرها. وفي الوقت الذي تحاول الأمم المتقدمة تعميم لغاتها في العالم، وتبذل في سبيل ذلك جهودا جبارة مستغلة الوسائل التكنولوجية، نرى العرب اليوم يفرّطون في لغتهم ـ الهوية.
في اليوم العالمي للغة العربية، ما هو الحيز الذي تشغله هذه اللغة في اهتمام حكومات العرب ومجتمعاتهم؟ يلاحظ بشكل عام غياب الدعم من قبل الدول والمؤسسات الرسمية العربية، للخطط والمراكز والدراسات والأبحاث التي من شأنها تفعيل استخدام اللغة الأم، والمحافظة عليها بما تشكله من رابطة توحد بين الشعوب العربية. فالتخلف الحضاري العربي هو الوجه الآخر لتردي وضْع لغة الضاد. فكما تتآكل أجزاء وأراض من الوطن العربي، ويُعمل على تفتيته إلى كونفدراليات، وكما يتم سحْق اقتصاد الدول العربية وتراجع مستويات معدلات التنمية فيها، كذلك الحال يبدو أشد سوءاً في مستوى الكلام على واقع اللغة العربية ومستقبلها. إن الاستخفاف في التعاطي مع اللغة والنظر إليها نظرة دونية إنما يعبران عن شعور بالنقص تجاه الانتماء إلى العروبة والشرق والمنطقة العربية، وهذا نتيجة الجهل المستحكم في العقول المعلبة التي باتت تظن أنّ التطور يأتي فقط من الغرب على قاعدة الاستلاب به والانسحاق أمامه.
يقول هايدغر: «ليس الفهم شيئا يفعله الإنسان، بل شيء يكونه.. الفهم مرتبط بالكينونة، وكينونة الشيء ليست سوى وجوده اللغوي». ويقول غادامر: «ليس للكون معنى إلا بسبب لغوية الوجود، فالمعنى ليس أمرا عقليا مجردا، إنما هو التجلي اللغوي للوجود».
بالعموم، اللغة العربية في عالم اليوم أرفع منزلة من الناطقين بها. هي لغة المعرفة وهُمْ مصنفون بين الأمم نكرات، وهي قابلة للاشتقاق وهم في حال من الجمود، وفي المحصلة، هي معجزة فيما هم عاجزون.
حبيب فياض
السفير
الوسوم :اللغة العربية أرقى من عرب اليوم