انتظرنا معرض الخريف في متحف سرسق كما انتظرنا سابقاً افتتاح المتحف نفسه، بعدما بقي مقفلاً لثماني سنوات بداعي إعادة التأهيل وضرورات التحديث. سُررنا لافتتاح المتحف، بعدما لاحظنا التحسين الواقع من أجل إضفاء طابع العصرنة على المكان، الذي يتمتع، من حيث الأساس، بمواصفات لا تتوافر في مكان آخر لجهة الموقع الجغرافي والبناء التراثي الجميل، ونظراً إلى ما يضمّه من أعمال فنية تغطي مراحل مهمة من تاريخ الفن التشكيلي اللبناني. لكن الإنطباع الذي تركه في نفوسنا الافتتاح المذكور يختلف عن الإنطباع الذي تولّد لدينا إثر جولتنا بين الأعمال المدرجة ضمن تظاهرة معرض الخريف، التي تمثل، في حد ذاتها، تقليداً سارت عليه إدارة المتحف منذ أمد بعيد، واعتمدت مقياساً لرصد الوضع التشكيلي وتطوراته في البلاد.
يبدو أنك حين تنتظر شيئاً ما، وذلك في المجالات كافة وليس في مجال الفن فحسب، تصوغ في ذهنك صوراً افتراضية لما من شأنه أن يفاجئك ويُثير فيك الدهشة. هذه الدهشة، التي انتظرنا حلولها علينا خلال جولتنا بين الأعمال المعروضة، لم تتسرّب مفاعيلها إلينا إلاّ بمستويات منخفضة، بالرغم من تفهّمنا للظروف التي قد تحيط بتظاهرات من هذا النوع، وتدفع إلى هذا الخيار من دون ذاك.
يشارك في معرض الخريف، في دورته الثانية والثلاثين، 52 فناناً ممن تم اختيار أعمالهم من ضمن 322 تقدموا بملفات بهدف المشاركة في المناسبة المنتظرة. في هذا الإطار، لن نحسد اللجنة التي كان من شأنها اختيار الأعمال “الصالحة” للعرض، ولا نشك في أنها وقعت في حيرة من أمرها، ربما، في بعض الأحيان، فالمهمة صعبة وجليلة، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالمعرض الأول بعد فترة الإقفال. لقد وجدت اللجنة نفسها أمام أعمال يود بعضها أن يطرق أبواب الحداثة، أو بالأحرى ما بعد الحداثة الفنية، التي لم ينته الجدال حولها، وحول ماهيتها وإمكان صمودها، واستناداً إلى أي معايير يمكن تقويمها. إلى ذلك، كانت أمام اللجنة أعمال لفنانين مكرّسين لا يزالون على علاقة وثيقة بـ”اللوحة”، كشكل من أشكال التعبير القديم – الجديد، التي تحاول بعض التجارب الحديثة التقليل من دورها، واعتبارها جزءاً من الماضي الفني. هذا الاعتبار، أو التوجّه، المتنازع عليه، والحاصل فعلاً في عصرنا الحاضر، يبدو مشروعاً في بعض جوانبه، إذا ما اعتبرنا أن تقييد الفن وترشيده لم يعودا واردين في أيامنا هذه. لكن هذا التوجه يبقى ناقصاً ومزاجياً في حال عدم استناده إلى اقتناع فكري وفني، إذ يرتكز في جزء منه، لدى البعض، كي لا نظلم الجميع، إلى ضعف أكاديمي، مع أخذنا في الاعتبار أن التربية الفنية الأكاديمية الصارمة لم تعد واجباً “مقدّساً”، بقدر ما لها من دور نسبي في تنمية الإمكانات الفردية، بهدف تثبيت القدرة على ممارسة نشاط يعتمد الحرية الفنية كنتيجة تجربة ناضجة، وليس كملجأ اضطراري. هكذا، وتحت مسمى الحداثة، وإطلاق إمكانات التعبير لدى الجيل الجديد، كما ورد في الشعار الذي أطلقته لجنة التحكيم، تم إمرار بعض الأعمال المشكوك في أمرها لجهة مستواها الفني، ولجهة موقعها الفعلي ضمن التجارب الهادفة إلى تحديث الرؤية إلى الفن التشكيلي، كشكل من أشكال الفنون البشرية.
محمد شرف
النهار