يخوض مازن حيدر في تجربته الروائية الأولى، “فور ستبس داون” (دار الآداب)، لعبة الغوص في جدلية الإنتماء والإنسلاخ في حيوات شخصيّات رماها القدر في نقاط حساسة من جغرافيا بيروت، من خلال الإنغماس التام في تفاصيل “المكان”، فكرةً وهويةً وجوهر حياة.
شخصياتٌ تخضع لأصعب امتحانات القدرة على العيش والإستمرار، وسط غياب أي أفق مُطَمئن يتيح رسم حاضر أو مستقبل أو حتى الحفاظ على خطوط للماضي الذي بات محكومًا بالإندثار. تحضر الجغرافيا بكل ثقلها من بوابة تنوع طبيعة الحيز المكاني في الدرجة الأولى، لتتعاقب على إثره أبعاد متلاحقة تلقي بظلالها على سلسلة من العلاقات الإنسانية تتأثّر بحوادث متعددة المناحي، تاريخيًا وسياسيًا وإجتماعيًا وعائليًا.
يحاول راجي، وهو الشخصية المحورية في الرواية، إبقاء الخيط الرفيع الذي يمكّنه من وصل كل التفاصيل الحياتية بعضها بعضًا، من أبسطها إلى أعلاها أهمية. يتشبّث بكل تفصيل يرى فيه سبيلاً لإحياء انتماء يتعرض للسحق والكنس، فيمتد هوسه من الأغراض المنزلية إلى الصور إلى الأدوات القرطاسية إلى قصص عن جذور العائلة لا يبدو فيها واضحًا الصحيح من المختلق. ذلك كلّه بينما هو يرى الأمكنة تختفي الواحد تلو الآخر في عمليات الهدم الممنهجة التي تزيل بدقائق تاريخ حيوات بنيت خلال عقود. أمكنة ليس واضحا أصلًا معيار صحة إنتمائه إليها نظرًا لاستثنائية الظروف التي حكمت وجوده فيها وتنقله بينها. أبعد من ذلك، تفعل السِيَر الذاتية فعلها في خلق مناخات أشمل وأوسع أفقًا ترتقي من خلالها الرواية فوق الحدود الأولية لشخوصها الرئيسية، حتى تكاد تشكل كل سيرة رواية في ذاتها، شبه متكاملة العناصر، شخصيات وحبكة وسياقا ودلالات. يتمكن المؤلّف من خلال مجموعة هذه السِيَر من الإضاءة على أوضاع عاشها اللبنانيون عمومًا في محطات متعددة من تاريخهم، حتى ليكاد كل قارئ لبناني يشعر في هذه المشهدية أن حدثًا ما مسّه في العمق لينخرط هو فيه كشخصية قائمة بذاتها.
في الموازاة، تحضر مع سيرة راجي، شظايا سيرة حياة شبه رئيسية أُخرى يحاول مازن حيدر تلقفها وإعادة وصل تفاصيلها من جديد. تظهر قصّة مانويل آحو، الشخصية المحورية الثانية، ضمن لوحاتٍ مشتتة للوهلة الأولى كالصور الفوتوغرافيّة المتراكمة والمتداخلة. لكن سحابة الضبابية لا تلبث أن تنقشع، لتخرج إلى النور ملامح سرديّة تتقاطع مع سيرة راجي، لتشكلا مجرىً واحدًا يصبّ في بحر الرواية الشاملة. فمن خلال قصّة مشروع فوتوغرافي لأرشفة قصص لسكّان من شارع ليون في رأس بيروت، يستفيض المصوّر مانويل آحو في وصفه، فتزداد الصلة بين القصتين متانة وتتجلّى قدرتها على التكامل شيئا فشيئا على مدى تطور السياق الجاري.
ينجح مازن حيدر من خلال لغةٍ رشيقة سلسة متوازنة غير متكلفة، في بناء حوار حقيقي مع القارئ محوره مدينة بيروت التي لا يلقي أحد إليها بالاً، في ظل نزوع أهلها الدائم إلى الاستكانة أمام مقتضيات ما يظنّونه عصرنة. نجد أنّ المساحات الإنسانية والجغرافية الملتحمة في “فور ستبس داون” مهدّدة باستمرارٍ أمام تمدد ثقافة ترى أن التطوير والمستقبل يمرّان عبر محو الماضي أو من خلال فرض مفاهيم خاطئة للحداثة تطيح روحيّة الأمكنة وحياة أفرادها، بتجاربهم وسيرهم وأحلامهم وتطلعاتهم وحماقاتهم. عدا ذلك، تتجاوز الرواية الأطر المسبوكة سلفًا لنمطية العلاقات من خلال مفاجآت تبرز من خلال بعض التلميحات هنا وهناك، تترك للقارئ المدى الواسع إمّا للوصول إلى حقيقة قاطعة لاستنتاج ما حول طبيعة ارتباط الشخصيّات بعضها ببعض، وإمّا إلى التيه العامر بالتساؤلات. قد تجنح مخيلة القارئ مثلاً نحو الخروج بالتصورات المحتملة لجذور علاقة بين راجي بصديقه داني الكك، مما يأخذ القارئ إلى احتمالات استخلاص طرح المثلية كبعد إضافي في سياق الرواية، وهو بعد يشكل ما يشكل من جو إشكالي ضمن البيئة العامة التي تعيش شخصيات الرواية في أرجائها، أسريًا وعائليًا وإجتماعيًا، كما يمنح إمكانات متنوعة لتكوين أفكار عن شخصية راجي وحساسيته وسلوكه على المستوى النفسي الذي يلقي الكاتب الضوء عليه في مشاهد الجلسات في عيادة الطبيب النفسي كما في ارتباطه العضوي مع سيرة أمه سارية، التي من خلالها ينبثق الهم الأساس في إنتقاء المكان، أي مكان، عملاً وسكنًا وانتماءً وحُلمًا.
“فور ستبس داون” إنطلاقة واعدة للمسيرة الروائية للكاتب مازن حيدر، الآتي إلى الأدب من عالم الشغف بفن العمارة، وهو ما برز في ذلك الشغف بتفاصيل الأمكنة التي تسعى جاهدة للحفاظ على هويتها وتوارثها. شغفٌ تُرجِم قوالب روائية عامرة بالتفاصيل المميزة شكلاً وأسلوبًا وسياقًا عامًا، مما يجعل التفاعل مع رسائلها ودلالاتها أكثر حيوية وإثارة، إنطلاقة تشي بأن الخطوات التالية لها سترسم طريقها على الأرجح نحو الأعلى، لا الأسفل، في درج بناء مشروع روائي واضح المعالم والأبعاد.
حسن لزيق
النهار