لم تتمكّن الأيام من طَيّ صَفحة دامية لم يبقَ منها الكَثير باستثناء الصور وبعض ذكريات عالِقة في مكانٍ ما في حَنايا الروح. والصحافيّة المُخَضرَمة ماريا شختورة تَستَعيدُ فقراتها وكأنها حَدَثَت أمس الأول، وليسَت في الواقِع ابنة زَمَن عَبَر، آخذاً معه “نَغمَة الاتصال” الراعِبة التي تُسيّج إطاره المُتَزَعزِع.
في مَعرَض “جُدران العار” ( فُسحَة D BEIRUT الفنيّة: الطريق البحري – برج حمود) الذي يَندَرِج داخل إطار مهرجان التصوير الفوتوغرافي في منطقة البحر الأبيض المتوسط (فوتوميد)، تَتحوّل الذاكِرة سَفينة حَربيّة تَقتَحِم المَجهول ويجِدُ قُبطانها مُتعة “مُنحَرِفة” في مواجَهة الكراهية المُجَسّدة بالأخطار.
كَراهية عائِدة من ماضٍ بَعيد، ومع ذلك ما زال يتمتّع بالسُلطة الكافية لهدهدة يوميّاتنا “كيف ما بدّو”!
دَردَشة سَريعة مع ماريا شختورة عبر الهاتِف لِنَفهَم “شو كان قصدها” من العودة إلى الحَرب التي أمضينا في “كوخِها” بأبوابِه المُقفَلة بإحكام، سنوات طويلة… وها هو طيفها يطلّ من شبابيك الذاكرة المَسكونة!
تَتنهّد شختورة بَطريقة مَسموعة قبل أن تَروي لـ “النهار” قائلة: “الفكرة المحوريّة كانت للقيّمة على المعارض أليس مغبغب (تَملِكُ غاليري يَحمل إسمها). طَلَبت منّي ذات يوم أن تَعرُض عشرات الصور التي كنتُ قد التقطتها شخصيّاً خلال الحَرب الأهلية وحوّلتها كتاباً صَدَرَ عن دار “النهار” عام 1978 بعنوان: حَرب الشعارات”.
كان لمغبغب ما أرادَت، إذ إختارَت بموافَقة من شختورة، 20 صورة تُجسِّد حوارات الغرافيتي الصامِتة التي كانت الجُدران “أيام الحَرب” الشاهِدة عليها بـ”الغربيّة والشرقيّة” والجبل والدامور وتلّ الزعتر “يالّلي كانت دولة ضمن دولة”، كما تُشير شختورة!
خلال الحَرب صارَت الأحزاب تتوسّل الجُدران لتُدوّن عليها يدويّاً شعاراتها ولـ “تمرّر رسايل” إلى الأعداء لتأتيها الردود في منطقة أخرى وعلى جُدران أخرى.
حوارات “مَلغومة” وصامتة، حُضورها مدوٍّ!
تَفاعَلت شختورة العائدة من فرنسا في تلك الأيام، مع هذه الغرافيتي التي كانت تُنجَز يدويّاً، ” الشباب كانوا يخرطشوا ويركضوا! وكانت هذه الشِعارات عفويّة وفيها الكثير من الأفكار والكراهية والتاريخ والقصص المرعبة”.
تَمضي قائلة: “كانت هذه الشعارات المُنجزة بأسلوب الغرافيتي في غاية الأهميّة. وفي الحقيقة كانت تَعكُس لسان الحال في البَلد ومنها كنتُ أستَنتِج وأفهم الصورة الكبيرة لكل الحوادث”.
ماريا شختورة تَذكُر جيداً أنها كانت تمضي ساعات طويلة “بين الغربيّة والشرقيّة. “وخلال هذه الرحلات الخطرة اكتشفتُ أن هؤلاء الشباب، على تباين عقائدهم وميولهم السياسيّة، لا يختلفون في الواقِع. يُشبه بعضهم بعضاً”.
فوجئَت شختورة بهذه الحوارات التي كانت تُعقَد عبر الجُدران، “وكأن في ما بينهم (الشباب) تواصلاً مُستَمراً لمعرفة الأفكار المُعالجة يومياً على الجُدران. خيّل إلي أن أبناء الأحزاب كانوا يُخبِرون بعضهم مُسبقاً عن الرسائل التي ستبعث من على الجُدران في مُختلف المناطق. يعني جُملة على هذا الحائط في هذه المنطقة كانت تَحصل على جواب بعد ساعاتٍ على جدار آخر في مَنطقة مُختلفة”!
تُعلّق قائلة، “وهذا دَليل أن اللبناني هو نفسه أينما كان”.
قَبل المَعرَض، قالت أليس مغبغب لماريا شختورة: “من الضروري جداً أن نَعرض هذه الصور. أتعَلمين لماذا؟ لأن يجب ألا ننسى حتى ما نِرجع من أول وجديد!”.
– تَستمر معارِض مهرجان “فوتوميد” حتى الثامن من شباط.
هنادي الديري
النهار