نحن الذين واكبنا ريشته على مدى نصف قرن، لم تغب عن ذاكرتنا، الشخصيّة الكاريكاتوريّة اللبنانية التي كانت تزفّ الحدث على الصفحة الأخيرة من جريدة “النهار”، بظرافة الريشة وطرافة تعابيرها. كانت إطلالة “توما”، القروي العتيق، بطربوشه الأحمر وسرواله الأسود، المحنّك في الأمور السياسية، توازي إفتتاحيات غسّان تويني وميشال أبو جودة. فبيار صادق جعل هذه الشخصيّة أليفة عائلة “النهار”، يستفقدها القرّاء قبل الخبر المكتوب.
بيار صادق الذي عرفت فيه الإنسان الخجول، المهذّب، القليل الكلام، خلق إنساناً في زيّ القروي اللبناني واعطاه الكلام مكانه. توما لم يكن ثرثاراً، يجوجل حوادث لبنان والوطن العربي بكلمات قليلة، يظن، من يتمعّن في مغزاها أن هذا الفنّان الذي عثر في محبرته على موهبة الكلام بالرسم، يؤرّخ بريشة عصفور، سيرة لبنان.
فمن أجل أن تبقى هذه الشخصيّة الكاريكاتورية في البال، ولدت “مؤسّسة بيار صادق”، والغاية منها إيصال إرثه إلى الجيل الجديد. فعائلة بيار، من حنان زوجته إلى أبنائه، غادة وعمر ووليد، خشية أن يغافل الموت ذكراه، فتحت أرشيفه وعممّت أدبه الكاريكاتوري المنمّق وأسلوبه النقديّ للحدث، من خلال تبنّيه منذ البداية شخصية “توما” اللبنانية، على الجامعات التي تعنى بالفنون، كالألبا- البلمند، واللبنانيّة، والأنطونيّة، والروح القدس- الكسليك، وبيروت العربيّة، وسيدة اللويزة، والأميركيّة –اللبنانيّة، واللبنانيّة- الدوليّة، إلى جامعة عزم، ليكون هذا الإرث في خدمة طلاّب الرسم ولا سيّما فن الكاريكاتور.
في الثاني من شهر آذار،ستوزّع مؤسّسة بيار صادق، جائزة ” ريشة بيار” لدورتها الأولى، في أجواء متحف سرسق، بالتعاون مع الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة – جامعة البلمند، وجامعة إستيان – باريس.
غادة صادق أبيلاّ، في لقائي بها، أعطت هذا الموضوع المتعلّق ليس فقط بوالدها بل بكل من واكب زمن بيار صادق في جريدة “النهار”، التفاصيل التي كنت بحاجة إليها لكتابته:
“أثناء الجلسات الكيميائية التي كان يتقبّلها بأمل الشفاء، كنّا نأتيه إلى المستشفى بالأقلام والورق ليرسم. يمدّ ذراعه للعلاج، فيما الأخرى تحاول أن تلبي شغفه. الرجل المريض في فراش الموت كان منفصماً عن بيار صادق الفنّان الذي ما أن يأخذ القلم بيده اليمنى حتى ينسى السم المحقون بيده اليسرى. هكذا رافقنا أيّامه الأخيرة، ومنه نستمد شجاعة وقوّة.
“قبل وفاته وقد أصبح في مرحلة متقدّمة من المرض، وفيما كانت حنان والدتي، تفرز تحت إشرافه الكمّ الهائل من نتاجه الكاريكاتوري، ظنّ أنه سيكون ضالعاً في مشروع المؤسّسة التي تحمل اسمه. كانت حنان محرّك ذكرى بيار. بعد رحيله مضينا نضع الأسس ونحن على يقين بأن النجاح حليفنا، مستقوين ببركته. بعد سنة ونصف السنة، أطلقنا المؤسّسة وفي عرفنا أن كل خطوة كنا نقوم بها كان ينبغي لها أن تشبه أخلاقية بيار وتفكيره وإيمانه بوطنه لبنان”.
حين تنتعش الذكرى، لا يجفّ الحبر، هذا هو هدف “مؤسّسة بيار صادق”:
“الجامعات فتحت أبوابها لاستقبال إرث بيار صادق. ألف ومئة طالب من الجامعات المذكورة أصبحوا اليوم على سعة معرفة بفن هذا المعلّم. فبعد تجاوب الجامعات ولدت جائزة “ريشة بيار” بالتعاون مع جامعة إستيان – باريس، وتمنح للرسوم التي تختارها اللجنة من بين المشاركين في المباراة”.
■ هل المتبارون جميعهم من لبنان؟
– أجل، من الجامعات اللبنانية كافة. طلاب تلقوا إرث بيار صادق وساروا في هذه المسابقة على خطّه. “توما” الشخصيّة اللبنانيّة القرويّة التي أصبحت على مرّ الزمن أليفة قرّاء “النهار” من أوائل الستينات حتى العام 2013، ها هي تصل اليوم إلى الجيل الجديد. بيار صادق لم يكتب إفتتاحية في جريدة “النهار”. إفتتاحياته، هي ريشته، الدقيقة بتعابيرها، الماهرة في اختصارها موضوع الساعة. بريشة بيار صادق يتأرّخ لبنان الحديث.
النهار