وكأنّه لا يكفي ما وَقع من ضحايا هذا العام نتيجة الرصاص المتفلّت. ما يزيد الطين بلّة، ويرفع منسوب المخاوف من ردود الفعل المرافقة للنتائج، أنّ هذه الدفعة من التلاميذ ستنال للمرّة الأولى شهادةً رسمية، بعدما أخذت إفادات في المتوسطة، لذا لا شيءَ مضمونٌ.
العلامات… تُحدّد الرصاصات
لم يكَد يتلقّى أبو وليد خبر نجاح ابنه حتى حمَل سلاحه وهرول إلى السطح مطلِقاً له العنان، إلّا أنّ زوجته لحقَت به، وهي تحمل طفلَها الرضيع تتوسّله، «من شان ألله بلاها»، «يا رجّال منخرب بيتنا بإيدنا»… نجحت الزوجة في ثنيِ زوجها عن فِعلته، وعادا معاً أدراجَهما.
ولكن ما إن دخلَ الوالد منزله حتى أخذ هاتفَه واتّصل بوالده المقيم في الضيعة، قائلاً: «حفيدك نجح، إنت والشباب عمِلوا اللازم»، فأخذ الجد المهمّة عن ابنه وخرج «لتُلعلعَ» رصاصاته في السماء. أمّا جاره فيُعدّ الدقائق واللحظات، فقد وعَد ابنته في الثانوية العامة بأنّه سيطلِق لها رصاصات بعدد علاماتها مع احتساب علامات «البروفيه».
فيقول: «منذ 3 سنوات أرجأنا فرحتَنا، والسبت الشهادة الرسمية الأولى الفعلية لابنتي، وفهمكم كفاية»، رافضاً متابعة الحديث تحسُّباً لِـ«دزّة بحقّو»، على حدّ تعبيره.
من هو مطلِق النار؟
في ضوء المتابعات المكثّفة التي تُجريها القوى الأمنية، والتحقيقات مع مطلِقي النار يتبيّن أنّ آباءَ التلاميذ أو أشقّاءَهم غالباً ما يتشجّعون لإطلاق النار، على اعتبار «ليش جارنا قوَّص ونِحنا لأ!».
في هذا الإطار يلفت المصدر الأمني إلى أنّ «مطلق النار، بصرف النظر عن هويته، هو مجرم لأنّ هناك احتمالاً كبيراً أن يُقتل إنساناً آخر بفعلته، والقانون (المادة 75) واضح في هذا الشأن، «كلّ من أطلقَ النار في الأماكن الآهلة أو في حشدٍ من الناس، من سلاح مرخَّص أو غير مرخّص، يُعاقَب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة ماليّة».
ويَعتبر المصدر أنّه لا يمكن الحديث عمّا إذا كانت هذه الظاهرة إلى تزايُد، نظراً إلى «أنّها دائماً موجودة، ثابتة في مناسبات كثيرة وفي مناطق متعدّدة ساحلاً وجبلاً».
بعلبك… والاختبار المزدوج
يُشكّل إطلاقُ الرصاص في عدد من القرى والبلدات اللبنانية جزءاً لا ينفصل عن تقاليد أهلها، ومنها بعلبك التي سجّلت سقوط الضحية الأولى حسين علي جمال نتيجة رصاص الابتهاج بنتائج «البروفيه». لذا تقف مدينة الشمس أمام اختبار مزدوج بين نتائج أبنائها وتعبير فرح أهلِهم بلا رصاص، خصوصاً أنّ مدينتهم ستطلِق مهرجاناتها عشية صدور النتائج.
في هذا السياق، يُعرب رئيس بلدية بعلبك العميد المتقاعد حسين لقيس لـ«الجمهورية» عن كامل حِرصه على ضبط الأمن، قائلاً: «تستقبل بعلبك من خارجها كمّاً كبيراً من الأهالي، ولكلٍّ عاداتُه وأساليبه التعبيرية، و90 في المئة من الخلافات التي تحصل ترتبط بأصحاب العلاقة ولا تعكس الصورة العامة عن المدينة».
ويتابع: «إطلاق البعض للرّصاص له رمزيتُه من حيث العدد، على سبيل المثال قد يطلقون 3 رصاصات عند حالات الوفاة، وأكثر عند طلب الاستنجاد، للأسف هذه عادة تَوارثتها الأجيال وبدأت تتّجه نحو الفوضى وارتكاب الجرائم».
وحيال خدمة التبليغ على الرقم 112، التي وضَعتها قوى الأمن الداخلي في أيدي المواطنين للتبليغ عن أيّ حادث إطلاق رصاص، تَعمد بلدية بعلبك بالإضافة إلى تلك الخدمة، إلى وسائل شتّى لمكافحة ظاهرة الرصاص، فيوضح لقيس: «عند كلّ عملية إطلاق نار نتقصّى عن الجهة المرتكبة، نجلبُ الهوية الكاملة ونُسطّر مذكّرة بحثٍ وتحرٍّ، وبمجرّد أنّ مطلِقي الرصاص باتوا يتبلّغون، تراجعَت إلى حدٍّ ما هذه الظاهرة».
ولا ينكِر لقيس مشقّة تتبّعِ الأفراد: «يصعب ترقّبُ كلّ فردٍ ولحظة إطلاقه الرصاص، لذا نُناشد الأجهزة الأمنية تعزيزَ تدابيرها، لكي «لا تضيع الطاسة» بين المفرقعات النارية والرصاص»، مشيراً إلى «أنّه لا يترك مناسبةً إلّا ويشجّع فاعليات البلدة وأبناءَها على التعبير بعيداً من الرصاص».
لماذا يطلِقون الرصاص؟
عملٌ بطولي، شجاع، قبضاي، «ديك الحي»، وغيرها من التسميات تقترن بأسماء مطلِقي الرصاص، الذين يرونَ في «وسيلة التعبير» هذه لغةً خاصة بهم، يَصعب التخلّي عنها. في هذا السياق، يوضح العالِم الاجتماعي الدكتور ميشال سبع «أنّ ظاهرة إطلاق الرصاص تعود إلى أيام الغزو، حين كانت القبائل وفي طريق عودتها منتصرةً تطلِق النار في الهواء لإبلاغ عشيرتها بالانتصار».
ويقول لـ«الجمهورية»: «ولاحقاً انتقلت عادةُ إطلاق الرصاص إلى الإعراس، عندما كان يستقبل العريس عروسَه، يبدأ المواكبون لها بإطلاق الرصاص، ويقابلهم رصاصُ أهلِ العريس، دلالة إلى أنّ عَقد الزواجِ يتمّ من منطلق القوّة».
ويضيف: «وعندما انتهت الحرب، ولم يعُد من حاجة للسلاح، باتوا يستغلّون أيَّ فرصة لاستخدام السلاح للتعبير عن أنّهم لا يزالون أقوياء، لكي لا يجرؤَ أحد على المساس بهم، ورافقَت هذه العادة مناسبات الأفراح أو الأتراح لتأكيد جهوزيتهم لخوض أيّ معركة».
وجود الدولة…
بين التعبير عن الفرح والحزن، تتعدَّد غايات مطلِقي الرصاص. وفي هذا السياق، يَعتبر سبع أنّه «ما من رابط بين الرصاص والابتهاج، سوى أنّ المبتهج يريد التعبير عن قوّته، إثباتَ وجوده، والدليل أنه يطلِق الرصاص في الأحزان».
ويضيف: «إستخدام السلاح سبقَ قيامَ الدولة، ولكن في مجتمعنا، حتى يومنا هذا لا يزال الرصاص منتشراً، ما يشير من جهة إلى أنّ حضور الدولة لا يزال مبتوراً، ومن جهة أخرى إلى رغبة لدى البعض في تحدّيها بعيداً من التعبير عن فرحه أو حزنه».
كيف يمكن التخفيف من هذه الظاهرة؟ يجيب سبع: «في ظلّ الازدواجية وتعدُّدِ الجهة الممسكة بالسلاح، وتَعذُّر دخول الدولة بعضَ المناطق، يصعب على المواطن تصديق وجودها. فلماذا في البلدان الأوروبية لا نشهد هذه الظاهرة، ولا يجرؤ أحد على إطلاق رصاصة؟ لذا وجود الدولة يجب أن يتخطّى إطارَ التمنّي، وقيامُها ليس فقط محصوراً بجهد قوى الأمن، بل هو منظومة كاملة».
الحل؟ #بتقبل_تقتل
تويتر، فايسبوك، موقعها الإلكتروني… لم تترك قوى الأمن الداخلي وسيلةً إلّا وجنّدتها في نشر ثقافة مكافحة ظاهرة إطلاق الرصاص، لا سيّما عبر هشتاغ #بتقبل_تقتل، بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات الميدانية وتدابير أمنية. وفي خطوة جديدة من نوعها لجأت إلى نشر أسماء مطلِقي النار، في هذا الإطار لا يخفي المصدر الأمني نفسُه «التخوّفَ الشديد من تجدّد الرصاص السبت، ولكنّ خطوة الإعلان عن الأسماء لا بد من أن تشكّلَ رادعاً، كي لا يَعتقد مطلِقو الرصاص أنّهم شجعان، أو أقوى من القانون». أمّا عن مصير الموقوفين؟ فيكتفي المصدر بالقول: «يتمّ التعامل معهم كأيّ شخص موقوف».
ختاماً، «في المدرسة نتعلّم الدروس ثمّ نمرّ على الامتحانات، أمّا في الحياة فنَمرُّ بالامتحانات ثمّ نتعلّم الدروس»، بعد هذا الكمّ الهائل من ضحايا الرصاص العشوائي أما آنَ لنا أن نتعلّم؟.