غريبٌ أن يرحل جان شمعون بلا صخبٍ أبداً. الشاب القادم من قرية سرعين البقاعية، جذبته المدنُ الكبيرة والعدسةُ الصغيرة في آنٍ معاً، فقرر أن يكون مخرجاً في زمنٍ عز فيه المخرجون الذي يحافظون على بوصلتهم على الرغم من ضياع البوصلة الأم.
هو تخرّج من باريس عاصمة الأنوار (أكمل دراسته في «جامعة باريس الثامنة» و«معهد لوي لوميار»)؛ ودارَ عواصم الأرض، يقول كلمته كما يحبها أن تكون، فقدّم أفلاماً هزّت أفئدةً وضمائر. في العام 1976، قدّم وثائقي «تل الزعتر» (بالاشتراك مع مصطفى أبو علي وبيدو أدريانو) الذي يقارب المجزرة التي طالت ذلك المخيّم الصغير الواقع في قلب ما كان يعرف بإسم «المناطق الشرقية» آنذاك. قد يبدو الكلام ههنا شاعرياً، لكن ميزة جان شمعون أنّه في الوقت الذي بدأت كاميرات الآخرين بالتوجه صوب الخليج و«ماله ورؤيته» في تفسير الهزائم وتبريرها، قرر شمعون أن يكون سابحاً عكس التيار، فظل على احترافيته ومهنيته. والأصدق من ذلك بوصلته التي لم تفارق فلسطين.
هو كان يشير إلى أنه يعشق حياته «العازبة»، وظل كذلك حتى التقاها، فتزوجا مدنياً، وأنجبا طفلين، وعدداً كبيراً من الأفلام المشتركة: «تحت الأنقاض» (مؤرخاً للحرب الأهلية وفظائعها ــــ 1982)، «زهرة القندول» (قصة حياة المناضلة اللبنانية خديجة حرز ــــــ 1985)، «بيروت جيل الحرب» (1989)، «أحلام معلقة» (1992)، «يوميات بيروت» (2006).
كان لافتاً أسلوب عملهما معاً، إذ بدا مختلفاً عن عمله وحده، أو عملها هي وحدها. بدا أنّ هناك نوعاً من «التفاهم» الضمني بينهما… تفاهم يبدو أقرب إلى اللا كلام، فالصورة أشد بلاغة بالنسبة إلى المخرج.
كان عام 2000 بالنسبة إلى لبنان إنتصاراً كبيراً، إذ رحل العدو الصهيوني عن أرضه بشكلٍ شبه كلي، وكان كبيراً كذلك بالنسبة إلى جان شمعون، إذ حقق فيلمه الروائي الأوّل «طيف المدينة». الشريط الذي انتظر طويلاً كي يقدّمه للجمهور، جاء خلاصة تجربة كبيرة، وكان ناجحاً ومذكراً بأولويات السينما لمن لم يعرفوا سينما لبنانية بعيداً عن سينما «الصالونات» و«الاستهلاك».
قدّم شخصياتٍ رافقته خلال حياته، قارب فيها ما يريد قوله حول الحرب والسلم، والحياة والموت حتى. يومها، أبدعت كريستين شويري في تقديم المرأة التي خطف زوجها وظلت باحثةً عنه. إنه نوعٌ من «التأريخ» لشخصية وداد حلواني، التي استوحى منها «الشخصية» التي أدتها شويري. كان شمعون يريد تأريخ الحرب كي ترى الأجيال الأصغر سناً ماذا تعني الحرب، والدمار الذي ألحقته بالناس، سواء على صعيد البشر أو الحجر. إنها رسالة شمعون لأجيالٍ مستقبلية مع بداية القرن الجديد.
رحل جان شمعون، صاحب الرؤيوية الشعبية في السينما اللبنانية الذي كان يصر على أنَّ السينما إن لم تكن «ملتصقة» بهموم الناس وواقعهم ومشاكلهم اليومية، فهي «ليست بسينما».
عبدالرحمن جاسم
الأخبار