شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | قواعد سيبويه* وأهميتها لتاريخ اللغة العربية
قواعد سيبويه* وأهميتها لتاريخ اللغة العربية
سيبويه

قواعد سيبويه* وأهميتها لتاريخ اللغة العربية

حافظت اللغة العربية الفصحى التي ما زالت سائدة مجمل الأدب العربي تقريبا والتي ينحصر تعليمها في المدارس وتستخدم لدى تلاوة القرآن وإلقاء الشعر وفي الخطب الرصينة، على سمة مميّزة هي الإعراب. أمّا أشكال الحديث العامّي من تخاطب بين المثقفين الى ضروب لهجات أهل المدن والفلاّحين والأعراب فقد أقلعت عنه باستثناء حالات معيّنة. وعليه فإن التباين الآساس بين الفصحى والعامّيّة يشكّل أحد المواضيع الآكثر إثارة للجدل في تاريخ اللغة العربية.

ليس الأمر سيّان الإفتراض أن الإعراب قد ظلّ حيّا في اللغة المتداولة حتى القرنين التاسع والعاشر وأن عليه تقوم اللغة الأدبية التي وضع قواعدَها النّحاة أو أنه أُزيل في الزمن البدائي من منطلق أن الإعراب لم يكن في العصر السابق للإسلام سوى عنصرٍ تعبيريّ غريب في اللغة الحيّة. والحال أن الإعراب قادر اليوم بقواعده المعقّدة على إحداث انطباع لدى المراقب الذي يألف الآسلوب الراهن أكثر من الشعر القديم بأنه مصطنع وغير طبيعيّ. لذا اعتبره ج. د. ميخائيليس J.D. Michaelis  في القرن الثامن عشر أنه من اختراع النحاة وأنه ربما وضع حسب النموذج الأوروبي. ثم جاء بعده ج. فِتسشتاين J. Wetzstein في القرن الذي تلاه زاعما أن لغة الشعر متكلّفة. وبعد أن باتت البابليّة القديمة وقواعدها معروفة، طرح فولرز Vollers النظرية القائلة بأن النحاة اتخذوا من علم النحو المعتمد أساسا لنظام قواعديّ صعب واضعين بالتالي لغة مصطلح عليها. وادّعى أن القرآن جاء أصلا بلهجة أهل مكّة … وقد تناول  نولديكه Nöldeke تلك النظرية بالنقد المستفيض وأبدى رفضه لها مشيرًا إلى أن نحاة عصر الرشيد (نهاية القرن الثامن) يشهادة سيبويه، ظلّوا يسمعون لدى أهل البادية بكلّ دقائق الإعراب. وهدأ النقاش الى أن جاء باول كاله Paul Kahle عام 1947، فأيّد في كتابه “أرشيف القاهرة” (The Cairo Geniza) نظريّة فولرز مع فارق وحيد هو أنه لم يأخذ بالقول ان القرآن قائم على لهجة أهل مكّة، بل اعتبر أن بيان القرآن بمثابة اللغة العربيّة المألوفة التي كان يتكلّمها المكّيّون بكل فئاتهم. ورأى هو أيضا أن تلك اللغة لم تعرف الإعراب وأن اللّغويّين قد وضعوا في ما بعد، على أساس الشعر القديم، لغة نموذجية. وردًّا على الزعم بأن لهجة مكّة كانت مختلفة أشدّ الإختلاف عن لغة الشعر القديم، استشهد كاله قبل كل شيء بجملة من الحديث يجري فيها تنبيه المؤمن الى أهمّية الإعراب لدى تلاوة القرآن. لكنه لم يؤيّد صحّة هذا الكلام. ثمّة علماء تمسّكوا بالإختلاف بين اللغة  العامّية والمكتوبة، الذي أشار إليه  فولرز وتكهّنوا بأن العصر السابق للإسلام  قد شهد، بجانب اللّهجات، لغة فصحى ظلّت حيّة لدى الأعراب حتى عصر هارون الرشيد. ولئن بقي النحاة وقتذاك يسمعون بالإعراب، إلاّ أن ذلك مردّه الى لغة الشعر وحسب. في ظلّ تلك الظروفَ إذًا يجدر البحث في الإستنتاجات التي تمخّضت عنها قواعد سيبويه بالنسبة الى تاريخ اللغة العربية.

يتضمّن كتاب سيبويه الشهير أقدم ما وصل إلينا من قواعد عربية. لكنه لا يشير إلى بداية اللغة المحكيّة. وسيبويه مَدين كثيرًا لمعلّميه. فغالبًا (850 مرّة) ما يذكر الخليل، واضع أقدم قاموس وأوّل من استخرج العَروض. كما يردّد إسم يونس بن حبيب حوالى 200 مرّة والأخفش الأكبر 50 مرّة. وهناك معلّمون تظهر أسماؤهم بين الحين والآخر. ومن المراجع التي نقلت إليه تعاليمهم يذكر سيبويه غالبًا (40 مرّة) أبا عمرو بن العلاء. مؤسّس مدرسة النحو البصريّة التي ينتمي إليها سيبويه نفسه. رغم هذا الاستناد إلى معلّمين وأسلاف، إحتفظ سيبويه برأيه مخالفًا وجهات نظرهم في أحيان كثيرة. فهو يتحدث من وقت لآخر عن “النحاة” بشكل مطلق ويناقش قواعدهم لأنهم خرجوا عن اللّغة المتداولة بين الآعراب (1، 184، 190، 206، 217، 336، 347،369؛ 2،  18، 105، 160).

منذ الفقرة الأولى من كتابه يطلق سيبويه على اللّغة التي يعرضها  العربية. وبما أنه لم يُشر مرّة واحدة إلى ما يعنيه بذلك، سنحاول تفسير المصطلح إستنادًا إلى المؤلّف نفسه. الظّاهر أن المقصود بذلك لغة قوامها الإعراب. صحيح أنه غالبًا ما يشار إلى الخروج عليه، إلى تراكيب غير صحيحة وهفوات وأخطاء لغويّة، إلاّ أنه لا يجري التلميح إطلاقًا إلى الصّيغة التي يحتاجها علم النحو. سيبويه يوضح أقواله بأمثلة من القرآن والشعر. كما يورد أحيانًا أقوالاً مأثورة (مثلاً 1،  108، 110، 119، 123، 138، 314). أمّا أنه يرى في القرآن نموذجًا لغوًيًّا فأمر بديهي بالنسبة إلى المسلم. ألم يرد في القرآن الكريم أنه نزل” بلسان عربيّ مُبين” (سورة الشعراء- الآية 195). على أن الأشعار كانت أقدم صروح الأدب العربي. ويقال ان سيبويه قد أوردها دائما مع إغفال أصحابها، إلى أن جاء ناشرو مؤلّفه فأضافوا أسماء الشعراء بالقدر الذي كانوا معروفين لديهم. وتجدر الإشارة إلى أنه أتى على ذكر 200 شاعر، معظمهم من مشاهير العصر الأمويّ: الفرزدق (75 مرّة)، جرير (60 مرة)، في حين أطلّ الأخطل 20 مرة فقط، ذو الرُّمّة، صاحب ديوان” ورد اسمه 40 مرة. كما تردّد إسما زعيمي الشعر الأرجوزي الركيك، رؤبة 40 ووالده العجّاج 35 مرة. تلك الأرقام العالية لم يبلغها من شعراء الجاهليّة سوى الأعشى الذي تكرّر اسمه 40 مرة، أما أمرؤ القيس والنابغة فقد ذُكر كلّ منهما 30 مرة وزهير ولبيد 25 مرة. واكتفي بإيراد اسم طُرفة 12 مرة. بجانب أولئك المشاهير ذكر أيضًا شعراء من الصفّ  الثاني: أبو ليلى النايغة الجعديّ (20 مرة)، الراعي (17 مرة)، حسّان بن ثابت (16 مرة)، أبو نجم (16 مرة)، الحُطَيئة (16 مرة)، إبن مقبل (10 مرات)، أبو ذُؤيب الهُذَلي (10 مرات) وكثيرون غيرهم تمثّلوا بأقلّ من عشرة أبيات. جدير بالملاحظة أن سيبويه لا يقيس لغة الشعر بتزمت. فقد نقل عن عَديّ بن زيد وأبي دُعيد اللّذين تحوّلا عن لغة نجد، واستشهد بشعراء من أصل غير عربيّ من أمثال زياد الأعجم وأبي عطاء السَّندي. وأفرغ بجانب شعر الأعراب مكانا للشعر الحضري مثل الأساطير التواراتية المرويّة بقالب شَعريّ والتي تحمل اسم أمية بن أبي الصّلت، شعر الغزل الحجازي لعمر بن أبي ربيعة والأحوص في العصر الأمويّ الوسيط. وبينما يدّعي النقّاد الأدبيون أن عهد الشعر الفصيح قد ولّى مع أفول الدولة العربية عام 750، أورد سيبويه، ولو في حالتين أو ثلاث، أبياتا لأَعراب معاصرين. إلاّ أنه أغفل ما سُمّي ب”المحدَثين”، أي شعراء المدن في العصر العبّاسي الأوّل كبشّار بن بُرد وأبي العتاهية.

إذا كان سيبويه قد صرف النظر عن الخصوصيّات اللّغويّة لبعض ضروب الشِعر ولم يأبه لأسلوب بعض الشعراء، إلاّ أنه أولى اهتماما شديدا للتباين بين الشعر والنثر. فقد أشار مرارا وتكرارا إلى أن ما يسمح للشاعر من صيَغ وتراكيب لا يُسمح لغيره. كما تناول في فصول خاصّة الإنشاد والقواعد التي تنسحب على النظم الشعريّ.

يتبيّن ممّا تقدّم أن سيبويه لم يشأ بحال من الأحوال التعرض الى لغة الشعر، بل بالدرجة الأولى الى الكلام المنثور. لذا استند كما ذكرنا إلى القرآن. فأورد بين الحين والآخر أقوالا مأثورة، غير أنه لم يعتمد مرة واحدة على الحديث. المصدر الرئيس الذي رجع إليه في استعمال لغة النثر كان العرب. وقد أكثر من الاستشهاد بهم، بحيث اكتفى بالإشارة إليهم بضمير الغائب الجمع. وكان يُبدي أحيانا ملاحظة ويتحدّث عن العرب الذين يثير أسلوبهم الإعجاب أو الذي يمكن الأخذ به أو الإعتماد عليه، الذين يعوَّل عليهم أو المتمسّكين بنقاوة اللغة. تلك الملاحظات تُظهر أن لغة بعض الأَعراب في زمن سيبويه قد فقدت شيئا من نقاوتها. لسنا ندري المقاييس التي اعتمدها في إثبات اختصاصهم في الأمور اللّغوية، إلاّ أنه يمكن التكهّن بأنه لم يأخذ بأسلوب الأعراب الذين كانوا على صلة وثيقة بسكّان السهول والمدن.

يعلّق سيبويه أحيانًا على بيت شعر مستند بأنه سمعه من أحد الأَعراب، لكن ينبغي ألاّ يُفهم من ذلك أنهم كانوا بلسانَين إن صحّ التعبير وأنهم أتقنوا بجانب لغتهم لغة شعرية مختلفة عنها كثيرًا. كما أن الرأي القائل بأن الأَعراب عرفوا القواعد لا أساس له. فهم بالنسبة إلى سيبويه أناس بسطاء، لا علماء. وأحيانًا يتحدّث عنهم بطريقة توحي وكأنهم يتكلّمون طبقًا للقواعد اللّغوية. إلاّ أن ذلك مبنيّ فقط على نظريّته الني تُرجع كلَّ تغيير لغويّ إلى مشيئة صاحبه. كذلك لا صحّة للظنّ بأن سيبويه كان يسال الأَعراب عن مسائل لها علاقة باللغة الفصحى. فالأمثلة التي يَنسبها إليهم تُثبت عكس ذلك. هنا نصادف أشكالاً من الترحيب والمخاطبة والتمنيات واللّعنات. فقد ذكر أن قبيلة بني تميم التي تعتبر الممثّل النموذجيّ لسكّان نجد كانت تستعمل الحمدُ لله في حالة النّصب: الحمدَ لله وأن العديد من العرب قد فعلوا الشيء نفسه في حالات مشابهة، مثلا العِقابَ لك أوالترابَ لك (1،  178، 8). وجاء في الفصول 1،  147، 9 أنه بدلاً من نداء لبّيك كان بعض الأَعراب يقولون لبِّ. وأكّد في موضع آخر 1،  164، 3 أن

بعض العرب استعملوا حالة النَّصب بعد أمّا. لكن من الأهمية بمكان أنه تطرّق أيضا بالتفصيل إلى حالات يتابع فيها أحد أطراف الحديث الكلام بسؤال. وعليه يمكن الإستمرار في عبارة “هذا هو عبدُ الله”، “مررت بعبدِ الله”، “رأيتُ عبدَ الله” بسؤال مَنُ، منَ ومنِ. هذا الضمير المسند يمكن أيضا استعماله بالجمع وربطه بنهاية التأنيث. ولا تقلّ الحكاية عن ذلك أهميّة. وبالإمكان المضيّ في المثل المشار إليه أعلاه، من عبدُ الله، من عبدَ الله ومن عبدِ الله. بيد أن ذلك ليس مألوفًا سوى في لغة الحجازيّين. أمّا بنو تميم فيقولون دائما في تلك الحالة من عبدُ الله. مثلٌ آخر: سمع سيبويه 1،  359، 4، أن أعرابيّا ردّ على سؤال أليس قُريشيّا بقوله: ليس بقُريشيًّا. كما سمع من أعراب يجيبون عن عبارة: “إنصرفنا معهم” بسؤال: مع منٍ (1،  356، 14). حتى أنك تصادف حالة ضربَ منٌ منًا في الفصلين 1 و 356.

يتبيّن لنا أيضا من تلك الأمثلة أن سيبويه، حين يتحدث عن لغة أهل الحجاز، أو بعض القبائل، يفكّر في اللّهجات بالمعنى الشائع للمصطلح. فلقد استعمل كلمة  لغة للتدليل على العربية وعلى أسلوب بعض القبائل على السواء. والواقع أنه يرى في الخصوصيات اللغوية ضروبا لا تؤثّر على دقّة اللغة. وهكذا يعتبر من خصوصيات لغة الحجاز ليس فقط “ما” الحجازية الشهيرة التي دخلت القواعد، بل أيضا مَهمة الأمانة في النَص المعهودة إلى القرآن والتي لم يؤخذ بها عموما. من جهة أخرى يرى أن من خصوصية بني تميم حرف البداية “ي” في المضارع  (يِفعل بدل يَفعل)، وهي ظاهرة لم تُعمَّم أيضا. حتى أن سيبويه يذهب أبعد من ذلك حين يُقرّ بلغة أكلوني البراغيث، أي تطابق شكل الفعل المصرَّف مع الفاعل والذي لا وجود له لا  في الشعر القديم ولا في الأدب. وهذا يدلّ بجلاء على أنه لم يخطر بباله التطرّق الى لغة فصحى مختلفة عن العامية. فالعربية هي اللغة الفصحى المتميّزة بالإِعراب  على غرار ما هي مبنيّة في القرآن والشعر ومعتمدة في زمن سيبويه. وهي ليست لغة حقبة محدّدة أو نوع أدييّ بعينه ولا عائدة لجماعة عِرقية أو اجتماعية معيّنة، إذ انها تشمل بيان القرآن ولغة الحجاز وغير الأَعراب على السواء.

نوّهت سابقا الى ان العديد من العلماء يتكهّنون بأن ثمة مناطق أقلعت عن الإَعراب في الجاهلية. هذا التطور قد يكون مقبولا من حيث المبدأ، ذلك أن الحركات في الإعراب لا تستعمل في اللغة الفصحى سوى في تركيب الكلمة. لكنه ليس هناك حتى اليوم دليل قاطع على هذا الإفتراض، إلاّ أن ذلك التحوّل ينسحب يالتأكيد على الفترة التي سبقت الإسلام. فمع جيوش فجر الإسلام دخلت العربية مناطق لغوية غريبة وأصبحت لغة دولة امتدّت من إسبانيا الى حدود الصين، فشهدت على لسان الأعاجم ولا سيما معتنقي الإسلام حديثا الذين اعتمدوا أيضا لغة الفاتحين، تحوّلات عميقة في اللّفظ والنحو والتركيب والمفردات، بحيث يمكننا القول ان تاريخ اللغة العربية قد دخل مرحلة العربية المتوسطة. فالنوادر الكثيرة حول أخطاء معتنقي الإسلام الجدد اللّغوية تثبت لنا أن العرب، بجانب الأخطاء اللفظية، قد لفتوا النظر قبل كل شيء الى الخروج على الإعراب. أمّا محاولات “الموالي” (جمع مولى وهم الخدم والحلفاء في لغة العرب تم استخدامه بكثرة في زمن الخلافة الأمويّة للإشارة الى المسلمين من غير العرب – سكّان البلاد المفتوحة خارج الجزيرة العربية، كالفرس والآفارقة والأتراك والأكراد) التكلّم بلغة عربية صحيحة فقد ركّزت بشكل أساس على إجادة الإَعراب.

إن الآراء التي تقوم عليها تلك النظرية اللّغويّة تختلف عن التصوّرات والمفاهيم حول جوهر اللغة التي تكوّنت لدينا من المدرسة أو من الألسنيّة الحديثة. صحيح أن سيبويه يعرف حالات الرفع والإضافة والنصب والمضارع المرفوع والمنصوب والمجزوم، إلاّ أنه يجهل مصطلح الحالة وصيغة الفعل وبالتالي التصريف. فاهتمامه تركّز على الإِعراب، أي الإشارة الى حركات الضّمّ والفتح والكسر والسكون لتحديد الحالة والصيغة. وكما أن تلك، تبعًا لما أشرنا إليه، لا تستعمل سوى في الجملة، وهنا في تركيب الكلمة فقط، مثلا الله أكبر، بسم الله، سبحان الله، لا إله إلاّ الله، كذلك الإِعراب الذي يشكّل ظاهرة ترتيبية مرهونة حسب تعاليم القواعد العربية ب عامل. وبما أن كل جملة يجب أن تكون مفيدة، فإن القواعد العربية وثيقة الصلة بالمنطق. لذا جرى التطرّق  في الفقرات التمهيدية الى علاقة اللغة بالمنطق. فلقد كان سيبويه يدرك تمام الإدراك أن واقع الأشياء الواحد يمكن التعبير عنه بأشكال مختلفة وأن الشيء الواحد والنشاط الواحد والعلاقة المنطقية الواحدة لها في غالب الأحيان عدة مترادفات. على أن التعريف بأن كل جملة تتكوّن من مبتدأ وخبر يثبت بحدّ ذاته العلاقة المتينة بين اللغة والمنطق. وهكذا فإن اللغةَ بالنسبة الى النحاة نظام صارم لا يتبدّل من مضامين تجدّد ربطها بجمل مفيدة وقواعد ثابتة. ومن يعرف تلك القواعد يدرك أصل التعبير اللغويّ ويستطيع بموجبها تركيب الكلمات والجمل المناسبة. يتحدّد القياس إذًا بالتركيبات القياسية، وهو ليس وسيلة ، كما في العلوم اللغوية الحديثة، لتبيان الأشكال الشاذّة عن القواعد والتي يترتّب على النحاة أيضا أن يضعوها في اعتبارهم.

بطبيعة الحال تؤثّر النظرية اللّغوية أيضا في ترتيب المادّة. وحيث أن مصطلحَي الإِعراب والعامل من صلب النظرة الى اللغة، فإن كتاب سيبويه يعتبر بالفعل قواعد للنحو. هو ينطلق  (الفصل الأول) من تقسيم الكلمات إلى ثلاث فئات: الإِسم والفعل والحرف. ثم ينتقل في (الفصل الثاني    ) الى تقسيم الكلمات الى فئتين: المعرَّب والمبنيّ مع إلقاء نظرة عامّة على مخارج الكلمة الثمانية الممكنة في هاتين الفئتين حسب انتهائها بحرف رفع، نصب، جرّ أو سكون، مع اعتماد مصطلح العامل.

الفصل الثالث يتضمّن تأكيدا مقتضَبا على أن كل جملة يجب أن تتكوّن من مبتدأ وخبر. تليه الفصول (4-6) بشروحات حول علاقة اللغة بالمنطق، المترادفات، الدقّة اللغوية، السلامة المنطقية، القياس والخروج عنه. أمّا الوضع الخاصّ لأسلوب الشعراء فيجري إيضاحه بنماذج شعرية (الفصل السابع). بذلك ينتهي الاِستعراض التمهيديّ لبعض المعطيات اللغوية الأساسية ويبدأ تركيب الجملة الذي يحتل النصف الأوّل من المؤلَّف (الفصل 8 إلى 284). فيها يتطرّق إلى المفعول به، “ما” الحجازيّة، الجمل الاِستفهامية، المنصوب كتعبير عن المديح والتأنيب وبعد لا النافية، الجمل الإستثنائية، الجمل المفيدة، الجمل الشرطيّة، كان وأخواتها، إنَّ، أنَّ وغيرها. كما يتعرّض بين الحين والآخر الى الإستعمالات البسيطة لحالة الرفع (136-140) ، حالة الإضافة، الجرّ والمجرور (100- 260)، النداء (146- 174).

أمّا النصف الثاني من الكتاب فقد افتتح بالحالات الممنوعة من الصرف، أي بالجمل الإسميّة التي لا تختلف فيها حالة الإضافة ظاهريّا عن حالة النصب. وبما أن تلك الممنوعات من الصرف تدخل على بعض أسماء العلَم، فإن هذه الأخيرة، بقدر ما هي غير ممنوعة من الصرف، تحسم مع مصغراتها (مثلا  الكنى، الألقاب، أسماء الشهرة والأسماء الموصولة). ينسحب على ذلك تشكيل المثنى والجمع، أسماء الأعداد، أسماء الجنس وجمع التكسير. ولمّا كانت الممنوعات من الصرف تضمّ أيضا المعرَّف وغير المعرَّف، فإن تركيب الجملة ينتهي بالفصل 431 الذي تليه قواعد تركيب الفعل. هنا لا يجري فقط تناول  جذوره ومصادره والأفعال التي تخرج من عمق الحنجرة وتلك المشدّدة والأفعال الضعيفة الجَذر، بل أيضا العديد من المواضيع الأخرى: أشكال التعجّب (466- 469)، لواحق الضمير (501- 505)، معالجة القوافي لدى الإلقاء الشِّعري (507). وحيث أن جذور الأفعال المشتقة تتكوّن بإضافة حروف عليها، يكون استعمال الحروف الإضافية قد حُسم أيضا خارج تشكيل الفعل وقيام قاعدة مستفيضة لتركيب الجملة الإسميّة (511- 525). وتؤدّي التغييرات اللفظية التي تطرأ غالب الأحيان على الأفعال إلى إدخال إمالة الفتحة والكسرة وما يسمّى ب الإشباع (أي إطالة الحركات القصيرة). ويختتم المؤلِّف بباب حول علم الأصوات اللغوية (565- 574).

هذا وقد اعترضت الأبحاث التي تناولت كتاب سيبويه عقبات عديدة مردّها إلى أن نشر النص العربي الأصلي على يد هارتفيغ دِرِنبورع Hartwig Derenburg  ((1881- 1889    وصدور ترجمة ألمانية له من قبل غوستاف يان Gustav Jahn        (1894-1900)  قد صادفا في وقت سادت وضعية اللغة الناشئة عن الهندوجرمانية الدراسات الساميّة. كان العالمان يعتبران النطق الفرديّ بمثابة واقع الحياة اللغوية المجرّد. وقد حاولا انطلاقا من الحرف مرورا بالمقطع إلى  الكلمة، الولوج الى خفايا اللغة. وبرأيهما أن اختلاف اللغات الساميّة ناتج عن عملية تطوّر بيولوجبة حدّدتها، بقدر ما كان سياقُها منتظما، قوانين لفظية حتمية، في حين بحثت عن تفسير لشواذاتها عن طريق اعتماد تركيبات قياسية على أساس ترابطات نفسية. إلاّ أن رؤية الأمور على هذا النحو أدّت إلى اعتبار أهمية اللغة مسألة ثانوية. إذ ماذا كان يتوقّع الرجلان من القواعد العربية التي لم تعرف أساسا مصطلحات كالحركة، الإدغام، طول الصوت، ناهيك عن قوانين اللفظ؟ فقد بدت لهما محاولة غير علمية لا تستأهل الإهتمام بها. إن ترجمة يان لم تكن أهلاً لإحداث تحوّل كونها فسّرت نصّ سيبويه، بعد حوالي 200 عام من قيام السيرافي بشرحه ، على نحو غير مشروع منهجيّا متجاهلة المشكلة التاريخية تماما.

أشبع بريتوريوس Praetorius   ترجمة يان تقدًا وعاب عليها “عدم الدقة والعناية” (عام 1894  ص. 706) وأعرب عن وجهة نظر ذائعة حين تحدُث عن أهمية النحاة العرب في مؤلّفه (“من أجل فهم سيبويه”، 1895، ص. 30). فوصف وضعهم لقواعد بأنه مسألة تثير أشدّ الإهتمام. وأقرّ بأنهم قدّموا أعمالا ومواد جليلة للقواعد العربية التجريبية. لكنه اعترف بأنه لا يعير أكثر من أهمية تاريخية للبحوث والمسائل النظرية المختلف عليها الخاصة ببعض الظواهر القواعدية والتي يرى أن بالإمكان  فهمها يشكل أفضل “من ناحية علومنا اللغوية والقواعد الساميّة المقارنة”. وما دامت الوضعية اللغوية في الدراسات الساميّة  هي السائدة، كان من المستحيل فهم النحاة العرب.  فباستثناء غوتهولد فايل Gotthold Weil  الذي يعود اليه الفضل في إصدار “الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويّين البصْريّين والكوفيّين” لإبن الأنباري ، لم يعمل في الثمانين سنة الأخيرة أحد أو يكاد في هذا المجال.

يرى سيبويه في اللغة مجموعة من الكلمات لكل واحدة منها أهمية ودور ويمكن ربطها مع كلمات أخرى في جمل مفيدة حسب قواعد ثابتة. وقيمة قواعدها لا تكمن فقط في كونها تتضمن الإمكانات التركيبية للغة الفصحى بصورة متكاملة، ذلك لأن سيبويه لم يتوقف عند اللغة الأدبية، بل نهل من مَعين ضروب العاميّة.

في الواقع أنه ينبغي عدم إغفال الحدود الفاصلة بين قواعد سيبويه  والبحث اللّغوي المتزامن الذي أجراه دو سوسور De Saussure ومدرسة جنيف، إذ أنه في حين دعيا، تكملة للبحث اللغويّ التزامنيّ، إلى إجراء بحث تطوّري لها، وعيّنا له مهمة متابعة اللغة في سياقها التاريخي، تبيّن أن نظرية سيبويه اللّغويّة ينقصها تماما مصطلح التطور الزمنيّ. فهو لم ينحدث قَطّ عن عن نشوء اللغة، ربما تمسّكا منه بالآية الكريمة التي جاء فيها “وعلّم آدمَ الأسماء كلَّها…” سورة البقرة (2، 31) باعتبار أن تلك الكلمات لم يطرأ عليها تبدّلٌ عبر العصور. صحيح أنه عرف تغيّرات لغوية، إلاّ أنها كانت تكمن في جوهر اللغة. ولم يأت في كتابه على ذكر لغات أخرى، لكنه راعى الكلمات الأجنبية المشتقّة من الفارسية وعالج معانيها.

في هذا الغبن التاريخي أثبت سيبويه أنه ابن عصره. ففكرته عن الدنيا لا تختلف عنها لدى الباحثين في الطبيعة والخيميائيّين وعلماء الفلك والأطبّاء العرب. هو مثلهم ممثّل تفكير بنيويّ ويرتّب أشياء عالمه من ناحية علم المحو. وهو أيضا يعتقد أن عالم النشوء والزوال الذي منه المنطق البشريّ يقع تحت  قرص القمر وأنه عند الجانب الآخر منه يمتدّ ملكوت الروح الأزليّة  الثابتة والهادئة. من ذلك الملكوت تنحدر المصطلحات التي تتضمّنها معاني الكلمات والتي تحتلّ واقعًا روحيًا. من ملكوت الأفكار هذا تلد أيضا الروح البشرية اتي تساعد الإنسان على الترفّع عن عالم النشوء والزوال. وكما أن الفلكيّ قادر على حساب تأثير النجوم على العالم الأرضي، والخيميائي الذي يعرف ويستخدم خصائص المواد وشروط فاعليّتها، كذلك يدرك النحويّ الأثر الذي تُحدثه الكلمة بحدّ ذاتها أو وسط ظروف معيّنة على كلمات أخرى، حيث يكون قادرا على ردّ الواقع الروحي بأمانة أكبر كلّما تكلّم بدقّة أكثر.

حين نأخذ الترابطات بعين الإعتبار يتضح لنا الدور العظيم الذي لعبه النحو العربي في الإسلام خلال العصر الوسيط باعتباره حامل لواء كل تعليم شكليّ، ونفهم الأثر الذي تركه على الأدب العربيّ حتى يومنا هذا.

*(توفي نحو 796): هو أبو بِشر عمرو بن عثمان. ولد في البيضاء قرب شيراز وتوفي فيها. كان منشأه في البصرة. تعلّم على الخليل. يُعَدّ إمام مذهب البصريّين وكتابه في النحو هو “الكتاب”. شرحَه ابن السِّراج والمَبرَمان والسِّيرافي والرّماني.

دراسة أعدّها ويقدّمها ايلي مخول

 

عن ucip_Admin