أحلامها ليست بعيدة. انظروا بتمعّن، إنها هناك في مكان ما بين حجر النرد الذي يوحي الاحتمالات، والصحن المكسور بذكرياته الهاربة، والسمكة التي علقت في صنّارة صيّاد الكورنيش البحريّ، والكُرسي الذي ينتظر من يجلس عليه لتبدأ روايته الشخصيّة (أو ربما ليواسي وحدته)، وضوء الصباح الذي يَقتحم الروح، والإسمنت القاسي في إطلالته، لنعود مُجدداً إلى حجر النرد.
وربما إذا ما نظرنا بدقّة كبيرة سنكتشف أنها في الواقع مُتسلسلة من حيث قدرتها على رواية القصص، وإن كانت الفنانة التشكيليّة بتينا خوري بدر قد صادفتها في مختلف المواقف التي لا علاقة للواحدة بالأخرى.
الأكيد أن تجميعها لهذه الأشياء كشف لها عن حقيقة أخرى. حقيقة لا علاقة لها ببتينا الفنانة، بل هي انعكاس الأشياء نفسها. نعم، للأشياء حقيقتها، وها هو المَلموس يواجه بشراسة رواق الذكريات وأشباحها والأحاسيس المُضطربة التي تَنصهر بالأحلام ولم لا الرموز.
العالم الخارجي يتحوّل صدى لعالمها الداخليّ، يخرقه، يُحفّزه ويُغذّيه. تقول لـ “النهار” وقد زيّنت وجهها ابتسامة صغيرة لا تُفارقها طوال الحديث، “أعمالي تستكشف بعض أجزاء من التجارب الشخصيّة”.
نحن في فُسحة “Art On 56th” القائمة في أحد الشوارع الحميمة المُتفرّعة من شارع الجمّيزة الرئيسي. نجلس أمام مُختلف اللوحات التي تقرأها بتينا قصّة مُتسلسلة ومُشوّقة في سكونها. هي مُنحدرات تنتمي في الدرجة الأولى إلى عالمها الداخلي، “وأنا أجمعها بعناية. هذه الأشياء التي نقلتها إلى الكانفا لم تعد تنتمي إلى عالمها الأصلي بمعنى أنني سحبتها من وظائفها. ومن خلالها أحاول أن أجد معنى لهذا العالم، وإن كان بحثي هو في الواقع محاولة عاطفيّة ساذجة”.
لوحاتها مُنتشرة في أرجاء الفُسحة الأنيقة التي تُشرف على حديقة بيروتيّة قديمة، “ولكنني لا أعرف عددها. وها أنا أجلس أمام البعض منها وأشعر وكأنني في الواقع أشاهد نفسي وأراقبها. وكأنني أكتب يوميّاتي في دفتر الذكريات، أجلس مع نفسي وأرسم، فأنا عوض الكتابة في الدفتر أرسم على القماشة البيضاء”.
عنوان المعرض: “الطبيعة الصامتة”، وفيه عشرات الأحاديث والهمهمات وأحلام لم تتحقّق بعد.
انطلقت في هذه السلسلة التي لم تنته منها بعد، في العام 2012، وكانت البداية مع اللوحات الصغيرة الحجم، “تصوري أنني كنت أمضي ما يُقارب الـ3 ساعات وأحياناً 4 لأنها لوحة صغيرة واحدة. وانتقلت منها إلى اللوحات الكبيرة الحَجم والتي هي تجريديّة”.
لكل لوحة قصّتها. ربما كانت فصلاً من حياة بتينا، وربما كانت أيضاً فصلاً من حياتها. “الأشياء التي نراها على الكانفا لها قصّة كاملة. قصّتها – منها وفيها – وما أقوم به هو نقل الحالة التي كنت أمرّ فيها عندما صادفت هذه الأشياء في مُختلف الأماكن”.
هذه الأشياء التي هي في الواقع قصّة كاملة، “وجدتها وشعرتُ وكأنها تُناديني. الصحن المكسور، على سبيل المثال، وجدته على الأرض عندما كنت أشاهد مسرحيّة. نعم، نادتني الأشياء وتحوّلت جزءاً من هذه التجربة التي أعمل عليها. ومع الوقت سكنني الفضول لأعرف النتيجة إذا ما جمعت كل الأشياء بعضها مع بعض. وراحت القصّة تكتمل. أحياناً كانت الأشياء أشبه بفواصل أو أقواس في القصّة، والبعض منها كان حدثاً محورياً والبعض الآخر ثانويّ في إطلالته. ولكن الأشياء كلها اجتمعت لتروي القصّة الكاملة. الأشياء مهمة وإن اختلف دورها”.
قصّة مُشوّقة يرويها الزائر انطلاقاً من ترجمته الشخصيّة للوحات التي تُشكّل تجربة “متل كل هالتجارب” في حياة بتينا.
النهار