الجفاء المناخي للمكان يسود بشكلٍ دامس، حيث يتزعّم «العمدة» أو قائد الشرطة السيطرة الفعلية على البلدة مكان الحدث، والتي تدبّ فيها شتّى أنواع الذكريات الدميمة من السرقة والنهب والظلم والطغيان والفضائح الجنسية، وقد ظنّ الناس بأنّ تلك المصائب قد أصبحت من الماضي بعد أن انقضت سنوات طويلة عليها، فإذا بقصاصات ورقية تظهر كلّ ليلة معلّقة على جدران البيوت تندّد بالفضائح وتشهّر بأبطالها.. ممّا يؤدّي إلى جريمة قتل بسبب شكّ أحد الأشخاص بجاره بسبب قصاصة علّقت على حائط بيته واتّهمت الأخير بخيانته مع زوجته.
إنهيار النفوس
تؤدّي تلك الحادثة إلى انهيار الكثير من النفوس وتهيئة الجوّ للعمدة للاستيلاء على النفيس والغالي من الغنائم بحجة حماية البلدة، ونشر نفوذه بشكلٍ أوسع، وفرض تأثير سلطته على القسّ البريء الذي يخدم في كنيستها.
تتصارع شخصيات عدة في حلقة مفرغة من رواية ماركيز، فالحلاق هو الفيلسوف الذي ينتزع أفكار زبائنه بحكمة وحنكة، وطبيب الأسنان إنسان تمرّد على الظلم فأصبح مهدّداً بالموت في كلّ لحظة، والقاضي إنسان يميل مع كلّ ريح لا استقرار لأفكاره أو ثبات لها، أما الأرامل فبيوتهن تحفل بالأسرار وبالعشاق الذين يرتادون مضاجعهن.. وزوجة القتيل المظلوم التي تفقد عقلها بعد أن مات زوجها أمام عينيها دون أن تستطيع بأن تحرّك ساكناً..
شخصيات تلوذ بالخيال
الظروف تتراكم بقسوة على كلّ تلك الشخصيات التي تلوذ بالخيال عن واقعها المرير، حتى تتحوّل الحبكة فجأة عن مسارها الحقيقي، ويظهر شابٌ يروّج للثورة من خلال نشره قصاصات ورقية ضد القمع من قبل الشرطة والعمدة فيتمّ إسكاته عن طريق قتله في السجن، ويأتي الطبيب مهدّداً بتشريح الجثة ليفاجئه العمدة بادّعائه أنّ السجين قد هرب ولم يمت.
تبقى النهاية مفتوحة حيث يدسّ لنا الكاتب مشهداً ثوريّاً بأنّ الأب القس يسأل تلميذته صباحاً عن معنى هذا الهدوء النسبي في البلدة لتردّ عليه بأنّ الشرطة قد هاجمت دكان الحلاق ووجدت عنده أسلحة وذخائر وبأنّ معظم الرجال قد زجّوا في السجن لنشاطهم الثوري، وأنّ الرجال يتّجهون نحو الغابات لتنظيم ما يُسمّى بحرب العصابات.
الإسقاط الثوري ضعيف ومتخاذل جدّاً في رواية ماركيز، وهو لا يحتفي بقصص أو مغامرات مبتكرة، بل عوّل على جذور الرواية التقليدية في التقرّب من الواقع حدّ الجماد الأعمى.. حيث بدأت القصة بقصاصات للفضائح وانتهت بقصاصات للثورة.
كاتب حاذق
وفي الرواية استنباشٌ واستنباط لأقوال أرسطو في أنّ المجرم قد يكشف عن نفسه، ولكنّ الآراء الفلسفية الخاصة بالكاتب لا تتعدّى حدود المعنى المجازي للثورة والكبت والقمع الذي يولّد التحدّي والتمرّد.
ماركيز كاتبٌ حاذق عوّد قرّاءه على احتواء عناصر روايته بمهارة وشدّة بحيث لا تنهار الحبكة بتراكم الأحداث أو بتدخّل أبطالٍ جدد، كما فعل في روايته الخالدة «مئة عام من العزلة»، و«قصة موت معلن»، ولكنه في روايته «ليالي الحب والرعب» لم يُجِدْ لعبة الكرّ والفرّ، ولم يرَ إلّا ما أفرغه فيها من وجودٍ فيزيائي للشخوص وتحليل نفسي للأرواح. ولم يرصد الظاهرة الآنية إلّا بمقدار ما أتاح له الجوّ الرتيب الذي ساد الحكاية، فخذله قلمه في مفاصل جوهرية، وتلاشى عنصر التشويق تماماً وما عدنا نرى ملامح ماركيز التي لطالما أسبغها على كتاباته فيها.
والخطأ يكمن في أنّ الكاتب يكرّر نفسه في مرحلة ما ولا يقرأ لغيره، وقد شدّد نجيب محفوظ على نعمة القراءة قائلاً: «أكبر هزيمة في حياتي هي حرماني من متعة القراءة بعد ضعف نظري». ولكنّ ماركيز لم يكن لديه ضعف النظر ليقرأ.. وهذا الخطأ، أي قراءة ظلّ النفس، وليس ظلال الآخرين، يقع فيه كبار المبدعين في معظم الأحيان تيهاً بذواتهم وإعجاباً بأنفسهم حدّ الانبهار المعكوس الذي يخفّف من ضوء الإبداع ورقيّه.