شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | أخبار الكنيسة | «قوّاص البطريرك» لأنطوان سلامة: شهادة تاريخٍ محروقٍ في «تنكة»! بقلم طوني عيسى
«قوّاص البطريرك» لأنطوان سلامة: شهادة تاريخٍ محروقٍ في «تنكة»! بقلم طوني عيسى
«قوّاص البطريرك» لأنطوان سلامة: شهادة تاريخٍ محروقٍ في «تنكة»! بقلم طوني عيسى

«قوّاص البطريرك» لأنطوان سلامة: شهادة تاريخٍ محروقٍ في «تنكة»! بقلم طوني عيسى

يَصدمك أنطوان سلامة بتمهيدِه للرواية كالآتي: «وُلِدَ لبنان الكبير في عَوَز»- جَدّي». نعم، وفي منتهى البساطة والمباشَرة والبلاغة التي تُميِّز أسلوبَ الكاتب، حَضَر الأصيلُ من عمق تُرابه وقال كلمته على الصفحة الأولى، الجَدُّ الذي نِصْفُه الأول جوعٌ وموتٌ في «مرقد العنزة»، جبل لبنان، ونِصْفُه الآخَر نومٌ على حرير القمحِ في لبنانٍ كبير.
وأنت تقرأ رواية سلامة، «قوّاص البطريرك»، تَغرَق في فيلمٍ يزاوج الوثائقيَّ بالإبداعي، الواقعيَّ بالرمزي والسوريالي. ومن لحظة الفيلم الأولى حتى النهايات، تتنشّق رائحة الدخان المندفعة من داخل «تنكة- ذاكرة» استودعها ميشال كلَّ صُوَر العائلة، وسلّمها إلى النار، و»اقترب كأنه في عزّ البرد مادّاً يدَه ليَدفأ»، وهو في عزّ الصيف.

رواية مسكونة بالهواجس، مجنونة بالأحاسيس، إطارها الواسع بطريرك مقاومٌ للاحتلال، حاملٌ هموم شعبٍ يأكله الجَوْر والجوع. وإطارها الضيّق «قوّاصٌ» للبطريرك، تعصف به المغامرات ويتمرَّغ في خطيئة متمادية مع امرأة تخدم في بكركي، في غفلة عن زوجٍ مخدوع.

كتب أنطوان سلامة روايته برشاقة الصحافي، وبدقّة الباحث، وبلغة السهل الممتنع، وهو بارع فيها كلّها. وهي تتميَّز بوقفات مشهدية يَحضر فيها الشاعرُ بقوة إلى جانب الراوي، وعلى حسابِه أحياناً: «غادر يوحنا كفرذبيان في اتجاه البحر، انحدر في فراغ المكان الذي ابتلعه، راكضاً في الوادي، لا يبصر. يركض ويرتعد في بقعة من الصراخ الدفين. يسمع صوت أخيه الصغير يئنّ ويتجوَّف. يبصره ولا يراه في تراب بعيد من مقابر الكنيسة. يتمدّد في صقيع البرّية عبثاً، لعنةً، وذلاً لا يطاق».

يدخل سلامة في عمق وجدان البطريرك الياس الحويك ونظرته إلى أزمات الوطن والقهر الذي عاناه شعبه، ويقتحم تفاصيل حياته كقائد لكنيسته: «فِراشُه من قشّ. حِرامُه أبيض طرّزته والدته. سجّادته شاميّة. تحت شباك الغرفة طاولة من خشب يكتب عليها رسائله. وفي الزاوية مغسلة يواجهها صندوق حديد يخبّئ فيه الأموال البطريركية. لم يكن للبطريرك مال خصوصيّ».

وبكلمتين يقول سلامة ما يحتاج إلى مجلدات من الأبحاث: «كان عمر البطريرك ستة وسبعين عاماً، حين سافر إلى باريس من مرفأ جونية مطالباً بما حلم به دوماً، أرض تنبت فيها سنابل القمح. فوجئ حين أعطاه الفرنسيون أرضاً أوسع ممّا يريده في لبنان الكبير».

المأساة مريرة، لكنّ الكاتب لم يفقد لحظة روح السخرية. «وأكثر ما يضحكه كيف عقرت الكلاب جدّه وهو يزور عائلة في طرف الضيعة ليقنعها بانتخاب مرشحه المفضّل، وكيف كذب في هذه الانتخابات ألف مرّة، ويتحسّر فيليب مدوّر على المال الذي أنفقه في شرائه رأس بقر وخمسة رؤوس غنم وأربع بدلات ودزينة حمّالات للبنطلونات، كرشوة، وحين نجح مرشّحه زاره لتهنئته فنسي اسمه ومَن يكون».

وفي الفصل الأخير، يروي الكاتب كيف تولّى منصور دفن والده في البرّية، بعدما رفض أهالي الذوق دفنه في مقابرهم العمومية انتقاماً من البطريرك. يقول: «لَفّ منصور والده بشرشف أبيض، حمله إلى البرّية، حفر له، طمره في التراب. نزع العشب من حول قبره علَّ ملاكاً يقف حارساً ذكراه (…) حَزِن منصور، انكسر في مكانه، لكنه رأى النوافذ تُفتَح لهواء نقيّ».

تُرى، بعد احتراق «تاريخنا» في «تنكة»، ستُفتَح نوافذ الهواء النقيّ لينتعش «لبنان الكبير»… الكبير أكثر ممّا أراد البطريرك؟

بقلم طوني عيسى

الجمهورية

عن ucip_Admin