تشبه نظرية اللغات الهندوأوروبية فرضية الإنفجار الكبير(Big Bang).
لم يعرفها أحد ومع ذلك يؤمن بها الجميع. أما أصلها فيثير خواطر معشراللّغويين منذ زمن بعيد. حتى أنه وُصف ب”المشكلة الأشد جِماحا والأكثر دراسة للآلسنية التاريخية” . على أن الهندوأوروبيين ما عادوا يقفون موقف المتشكّك منذ أن أدرك مُرسَلون أو تجّار في القرنين السادس والسابع عشر، سافروا الى الهند، تشابها خارقا بين السنسكريتية العزيزة على تلك البلاد ولغاتهم الاوروبية بدءًا باللاّتينية. وها ان بداهة أصل مشترك راحت تسود شيئا فشيئا لغات محلية من بريتانيا (في فرنسا) الى الغانج : ولادة فريدة وآساسية لعشرات اللهجات في اوروبا وآسيا.
في البدء كان هناك شعب حامل للغة واحدة فرضت نفسها بالانتشار واندماج الأعراق الخ… ، والتنوّع لدى دخلاء لا يحصى عددهم في القارة القديمة (أوروبا وآسيا وأفريقيا) . مع ذلك حصل انزلاق في ما يخصّ علم اللّغة . وبالفعل أصدر النازيون مرسوما يصف تلك الجماعات – الهندوأوروبيين بأنهم كانوا ذوي عيون زرقاء وشعر فاتح اللون ، ظهروا في المناطق الواقعة شمال ألمانيا أو في اسكندينافيا، موطن “الآريين الشُّقر ” المشهورين. منذ ذلك الحين كشف النَّسَب الهندوأوروبي عن وجهه الحقيقي . انه علم السّلالات البشرية وعلم دلالة الالفاظ (دراسة المعنى ) . جرى بادئ ذي بدء تحديد مكان مهد الأقدمين . فكان ان الهندوأوروبيين عاشوا قبل حوالي عشرة آلاف سنة عند أطراف بحر قزوين الشرقية. حتى أنهم لم يكونوا بعيدين (جغرافيا) عن اخوتهم السّاميين. يا لها من مفارقة جِوار تثير عُواء صاحب كتاب “كفاحي” Mein Kampf . وتمرّ بضعة آلاف السنين، فنجد أعقاب أولئك الهندوأوروبيين الاوائل وقد انتقلوا باتجاه جنوب أو جنوب غرب الأورال حتى ضفاف نهري الفولغا والدنييبر .
أولئك الهندوأوروبيون الأوائل كانوا من الجِنس الابيض، دون تمييز بين شُقر أو سُمر . يّذكر أنه سبق للهندوأوروبيين أن تخلّوا في روسيا (الحالية) عن الطابع النيوليتي (العصر الحجري الأخير) : كانوا يدفنون موتاهم في مقابر يعلوها ركام من تراب أو في “كورغان” (كلمة روسية من اصل تتري)، هي عبارة عن تلال اصطناعية تغطي المقبرة، أصبحت فيما بعد بصمة نزوحهم المتعاقب على مرّ السنين. وعليه يكون الانسان الهندوأوروبي بحسب الفرضيّة الكورغانية ، منحدرا من شعب شبه بدويّ عاش قبل 6 الى 7 آلاف سنة في السُّهب الواقع شمال البحر الاسود، تقريبا على الحدود الراهنة بين روسيا واوكرانيا . فيكون هذا الشعب من المحاربين والخيّالة الفاتحين قد عاش عدة حملات من النزوح الذي مكّنه من نشر لغته في اوروبا وآسيا. أمّا الفرضية الأناضولية فترى ان الاصل الهندوأوروبي يرقى الى الأناضول (تركيا الحالية) قبل 8 الى 10 آلاف سنة مع ظهور الزراعة في تلك المنطقة وهكذا عمّت اللغة في كل أوراسيا مع انتشار الزراعة.
بذلك نلاحظ ان الفرضيّتين تختلفان جذريا فيما يخص المنشأ الجغرافي وزمن وطريقة انتشار اللغة الهندوأوروبية الاصلية ! وهكذا يرى اختصاصيون اليوم ان فرضية الكورغان هي الاكثر احتمالا . وأيّا كانت درجة تطوّرهم، حوالى العام 4500 ق.م. ، فانهم لم يكونوا نسويّين بحال من الأحوال نذكر هنا كلمتي Pater و Mater اللاتينيّتين والالمانية، Schwester . تلك الالفاظ تعني أب أم وأخت وهي قريبة جدا من اللغة الهندوأوروبية الاصلية. نقول ان مجتمع الهندوأوروبيين الأصلي قد تكوّن من ذكور، هم آباء قابلون للتناسل.أما الفتيات فكنّ ببساطة شقيقات : أخوات او بنات آباء آخرين. فكان جُلّ نظام الآباء يقتضي تزوّج اخوات Schwester لتحويلها الى امّهات ينجبن بدورهنّ آباء آخرين وشقيقات Schwester اخريات وهلمّ جرّا.
كانت القبائل الهندوأوروبية تُحكم بشكل ليبرالي (بتساهل وتسامح) من قِبل ملوك يرافق كل واحد منهم خادم سرّ ( كان يسمّى عرّاف عند الرومان) او كاهن مهمّته همس الاجوبة الجيّدة في اذنه، بمعاونة الآلهة وبقدر ما كان هذا الشعب يزداد نموّا راح الكهنوت يؤلف اكليروسا ضخما. (بذلك نكون قد سمحنا لأنفسنا باستعمال مفردات اليوم). اما الشباب، وهم مشاغبون عن رضًى، فكانوا يشكلون بدورهم طبقة من المحاربين المحترفين ، بينما تفرّغ عامة الناس للصناعة اليدوية والزراعة.
تلك كانت الوظائف الثلاث بحسب الباحث في تاريخ الشعوب جورج دومِزيل. وبعد ان تسلّحوا بهذه العُدّة والمهارات التي استخلصوا منها فلسفة كاملة، انطلق الهندوأوروبيون، اعتبارا من الالف الرابع قبل الميلاد، في اتّجاهات مختلفة: نحو الاناضول بادئ الامر، ومن ثمّ صوب اوروبا الغربية والوسطى؛ فانجبوا (بالاندماح مع السكان الاصليين) اليونانيين والايطاليانيين والجرمانيين والسلافيين والبلطيين (نسبة الى بحر البلطيق) والغاليين… ونحو الجنوب الشرقي حيث اندمجوا بشعوب إمّا ملوّنة او بِيض، ما تمخّض عنه، حسب الحالة، هنود الهند الشمالية او أبضا الايرانيين . حتى ان تلك الشعوب تفرّعت بين نهري الأندوس ( الّسندو باللغة السنسكريتية) والغانج الى نظام قوي من الطبقات الشعبية.
من المحيط الهندي الى بحر الشمال بتنا اليوم نعرف كل شي تقريبا عن اولئك الهندوأوروبيين، معاصري الفراعنة البعيدين. أنهم كانوا يلعبون بالكِعاب وعرضيّا بزهر النّرد ، ويتناولون حساء الذّرة البيضاء ويشربون الجعة . لكنهم لم يتذوقوا الخبز والنبيذ الّا في ما بعد لدى احتكاكهم ب “أغراب ” العصر الحجري الاخير الاوروبي الغربي او المتوسّطي.
ايلي مخول