لم يغب إدمون صعب أمس الأحد. غاب فعلاً يوم جُرح في الصميم، يوم غادر الموقع الذي صنعه بنفسه لمدة 45 عاماً، وبسهره الليلي وبعمله اليومي وثقافته وحرفيته. غاب إدمون صعب يوم حل الاستسهال مكان الاحتراف وتفوّقت السذاجة على ما عداها.
غاب إدمون صعب يوم لم تعد الصحافة المكتوبة خبزه اليومي والمحرك الذي جعله طوال حياته يأتي الى مكتبه في «النهار» ويجلس ساعات طوال يكتب ويقرأ ويحلّل ويصحّح ويعلّم. أسوأ أنواع رثاء إدمون صعب نوعان: أن يرثيه قليلو الوفاء، ومن يتغنى بحرفيته وهو من غير المحترفين. لأن حياة صعب كانت قائمة على هاتين النقطتين الوفاء للجريدة، فتليق به فعلاً كلمة «نذر» نفسه لها، أو كما يقول أحد الزملاء كان وفياً أكثر لغسان تويني، ولجبران تويني من بعده، وللحرفية العالية. ولهاتين الصفتين دفع ثمناً كبيراً من صحته ومن حياته ومن عمله الذي غادره مكرهاً.
كان إدمون صعب أستاذاً بالمعنى الحرفي للكلمة، وصحافياً بالمعنى الحرفي أيضاً، لأنه كان يريد من أي صحافي أن يجمع بين اللغة الصافية السليمة من دون أخطاء، والحنكة والثقافة والاطلاع. حين سألته صحافية لماذا يرسلها الى أول معرض دولي للسيارات في لبنان بعد الحرب، أجابها لأن الصحافي المحقق والاستقصائي يجب أن يعرف كل شرايين البلد ومفاصله، يغطي معرضاً للسيارات كما يغطي مؤتمراً لأي رئيس أميركي. بعد ذلك يأتي الاختصاص فيكون لكل صحافي مجال عمل يتمرس فيه. يعلّم بالمعنى الدقيق، يسأل ويزيد معلومة ويعيد النص لمزيد من التدقيق، وإضافة معلومات أكثر غنى للنص. يوم كانت المقالات تكتب على الورق الأصفر، يملأ المقال تصحيحات وملاحظات ويعيدها الى الصحافي لمزيد من التأني. ما إن تصل إليه معلومة أو رسالة تضيء على موضوع ما حتى يبادر الى طلب إجراء تحقيق عنه.
يعرف الجميع في المبنى وفي المطبعة والتوزيع وفي المكتبة والجريدة. يعرف تاريخها وأسراراً كثيرة ومعلومات أكثر. يعرف خبايا الصحيفة بكل شرايينها السياسية والمالية والعائلية. كان صاحب مزاج خاص، تختلف معه وتزعل منه وتعود الى مكتبه في اليوم التالي، لكنه كان صندوق شكاوى الجميع حين تكثر الهواجس والحملات والأخطاء، ويقوم بجولاته المعتادة بين مكاتب الصحافيين ويسأل ويضحك ويتحدث مع الجميع بصوت عالٍ. لم يكن مديراً مغلِقاً الباب على نفسه وعلى الآخرين. بابه المفتوح دوماً، لكل صحافي للحوار والمعاتبة والنقاش الحاد وأخبار الجريدة والجرائد الأخرى، وكان صحافياً بالمعنى الحقيقي بكل إيجابيات المهنة وكل سيئاتها، ولهذا السبب جمع تناقضات كثيرة. شخصيته تختلف عن شخصية «المدير» فرنسوا عقل، والشاعر أنسي الحاج. لكل واحد منهم عالمه الخاص، وأدبياته وسلوكياته ويومياته. لكن ما بينهم كان اتفاقاً ضمنياً على ولاء ومهنية واحترافية وعلاقة حب مع الصحافة المكتوبة لم تضعفها التكنولوجيا ولا وسائل الإعلام الحديثة، وإن اختلفت أساليب عملهم ورؤيتهم للصحافة والجريدة.
صعب الآتي من رئاسة تحرير «المختار» من «ريدرز دايجست»، التي أغنت ثقافة جيل كامل، وكانت فخره الذي يعتز به، بمواضيعها المتنوعة المختلفة وتحقيقاتها ومقالاتها الغنية، اختزن ثقافة موسوعية. يتحدث عن مطاط الدواليب وتركيبته وأثره البيئي، عن الورق وطبيعته، عن التكنولوجيا الحديثة، كما يتحدث عن الفن والمسرحيات وعن اللوحة المعلقة فوق مكتبه والتي كانت تثير تساؤلات الناظرين إليها، وعن كتاب صادر حديثاً وهو الذي أدار دار النشر، أو عن مقال في جريدة فرنسية أو أميركية. كُتب بالعشرات، ليست للزينة، ومجلات وجرائد تتكدس فوق مكتبه، يأكل وهو يقرأ ويصحح ويتابع ويسأل ويناقش. خاصمه البعض وأحبه البعض الآخر. خاصمه البعض لمواقفه السياسية، لكنه ظل حريصاً على إبعاد هذه الخصومات عن العمل اليومي للجريدة، وظل يكتب بحرية مطلقة، فحوّل مقاله يوم الجمعة، ولو لم ينشر على الصفحة الأولى، الى زاوية ترصد، ممهورة بتوقيعه الخاص، تلك العبارة التي يستهل بها مقالته، لأديب أو شاعر أو سياسي. خاصم حلفاء الجريدة السياسيين يوم كان صاحبها حليفاً لهم. لكنه ظل محافظاً على مسافة احترام لا يخرقها. وعبّر عن موقفه السياسي لاحقاً من دون مواربة، وبجرأة صافية عاداه كثر بسببها.
يوم اغتيل جبران تويني، تعالى صعب على موت من رافقه يافعاً وشاباً ورجلاً، ومارس صحافيته، مطالباً الجميع بوقف البكاء وعدم التلهي بوفود السياسيين الذين يؤمّون الجريدة، وبالعودة الى العمل لإصدار عدد يليق بجبران تويني. يومها دفع ثمناً ما. وحين غادر «النهار»، فقد حبه الأول، ولم تكفه كتابة المقالات في «السفير» و«الأخبار»، والإطلالات التلفزيونية، والانصراف الى المؤلفات والكتب. لأن عشقه الحقيقي، عدا عائلته التي كان يتحدث عنها دوماً، هو الحرفية والتدقيق والتمحيص والانخراط في دورة الحياة اليومية للجريدة ولو الى ما بعد منتصف الليل بكثير. هو من ذلك الرعيل الذي لا يطفئ ضوء مكتبه قبل أن يطمئن الى أن لا خبر ناقصاً ولا معلومات خاطئة ولا جرائد المقلب الثاني من الكرة الأرضية تنشر خبراً لا تنشرها جريدته.
أمس، غاب إدمون صعب الإنسان أولاً وآخراً. الصحافي غُيّب قسراً منذ سنوات.
هيام القصيفي
الأخبار