إعداد فيليب الحاج
تعتبر رميش تاريخياً الحارسة الجنوبية للبنان، فمنذ تأسيسها الحديث في القرن الثامن عشر كانت الدرع الذي يتحمل، مع جاراتها من البلدات، الصدمات عن الكيان، فهي كانت عرضة لغزوات البدو المرتحلين في المنطقة الفاصلة بين فلسطين وسوريا، حتى إغلاق الحدود عام 1948. هذه الغزوات كانت أرحم من المشاكل التي عانتها البلدة بعد ذاك بسبب الصراعات المستمرة.
ترتفع رميش عن سطح البحر بمعدل 635 متراً، وتبعد عن بيروت حوالي 135 كلم، وهي البلدة الأبعد جنوبا. تتبع لقضاء بنت جبيل الذي ألحق بمحافظة النبطية عند إنشائها عام 1994، أما تاريخياً فكانت صلتها مع قضاء صور.
الوصول من بيروت إلى رميش يتم عن طريق أوتوستراد الجنوب مروراً بالدامور، صيدا، صور فالناقورة، ثم الإتجاه شرقاً بمحاذاة الحدود إلى مثلث “القوزح، دبل، عيتا” ومن عيتا إلى رميش، وإلى سواها من الطرق المؤدية إليها.
الغروب
يرجّح أن أصل الإسم ارامي – سرياني (رمشو ) ويعني المساء او غروب الشمس، نظراً لأن البلدة محاطة بثمانِي هضاب، تجعل الغروب فيها أبكر من البلدات المحيطة.
تبلغ مساحتها مع خِرَبَها 20 ألف دونم، بالإضافة إلى أجزاء ضمّتها إسرائيل في نقاط مختلفة، أبرزها في منطقتي قطمون وسموخيا.
الخِرَب والمزارع المحيطة برميش هي: خربة كورا، جباب العرب، قطمون، سموخيا، المنصورة، وخربة كرسيفا.
هذه الخِرَب كانت مسكونة في أزمنة مختلفة، ففي قطمون قلعة رومانية ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، وفي منطقة كورا أثار تعود لعهود قديمة….
الديموغرافيا والهجرة
بلغ عدد المسجّلين على لوائح الشطب عام 2016 لإنتخابات البلدية 5250 شخصاً، مما يدّل على أن عدد السكان الإجمالي يناهز العشرة ألاف. والجدير بالذكر أن رميش شهدت عدة موجات هجرة في تاريخها، أبرزها كان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هذه الموجات استمرت حتى يومنا هذا بحيث يقدَّر عدد الرميشين المنتشرين، أو المتحدرين من أصل رميشي بأكثر من خمسة ألاف شخص. والمميز أن العلاقات لم تنقطع بين المغتربين والمقيمين حتى يومنا هذا، باستثناء فترات الحروب الصعبة وإقفال الحدود.
عدد الوحدات السكنية بلغ “حسب إحصاءات البلدية” 1400 وحدة عام 2017 وهو يزداد بمعدل 3.5% سنوياً، إذ طلب السكان عام 1918 حوالي 50 رخصة بناء جديدة.
يضاف الى ذلك نسبة من الوحدات غير السكنية، إذ درج في المدة الأخيرة بناء مراكز صناعية وتجارية وزراعية في عدة مواقع.
يعود تأسيس رميش الحديثة إلى أواخر القرن السابع عشر، حين بدأت تقيم فيها عائلات مارونية وروم كاثوليكية أتت من البلدات المحيطة (عيتا الشعب،عين إبل، وقانا وبنت جبيل وكونين) وتقوم بإستثمار سهل رميش وإنشاء منازل لها على تلة صغيرة، تقع بين بركتين إلى الجنوب الغربي من السهل.
تم تدشين كنيسة مار جرجس في رميش عام 1750 بعد حوالي عشر سنوات على تأسيسها، وبرزت البلدة ككيان سياسي عام 1797، إثر تعيين أحمد باشا الجزار لضاهر شوفاني شيخاً عليها.
تاريخ
عام 1983 ونظرا للنمو الديموغرافي في البلدة، بدأ العمل على انشاء كنيسة حديثة تلبي الاحتياجات الرعوية للبلدة المتنامية، اطلق عليها اسم ” كنيسة التجلي” ، تيمّنا بمرور السيد المسيح في المنطقة ، وتذكيرا بالحدث الانجيلي فوق جبل حرمون المطل في الافق الشمالي، حين أعلن السيد المسيح تأسيس الكنيسة الجامعة قائلا للقديس بطرس: ” انت الصخرة وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي.”
في بداية تاريخ رميش الحديث، كان توجّه الأجداد إلى الجليل الأعلى (أو بلاد البشاره، جبل عامل) بناء على تشجيع من الأمير فخر الدين الثاني المعني الذي تولّى على صفد عام 1600 ، فبدأ باستقطاب عائلات من الشمال والشوف والبقاع جنوباً بهدف تنمية المنطقة وصَهر مختلف ابنائها في بوتقة لبنان الكبير .في هذا الإطار، كان وصول أجدادنا في أواخر العهد المعني حوالي 1695، ولكن الاقامة فيها تم أستكمالها في العهد الشهابي، حين وصل المزيد من العائلات إلى رميش والجوار.
تكتلت العائلات الواردة إلى رميش ضمن أربع مجموعات هي: الحاج، شوفاني، العلم، والكلاسنة. كانت سياسات البلدة تتمحور حول هذه العائلات التي لم تزل مؤثرة حتى يومنا هذا.
شهدت أرض رميش عدة زلازل، أهمها الهزة التي حدثت في أول يوم من عام 1837 وأدّت إلى تدمير كورا ونزوح أهلها.
الصراعات السياسية أوصلت إلى حرق البلدة وتدمير كنيستها وتهجيرها عام 1795، وكانت العودة إليها بعد عامين بمباركة أحمد باشا الجزار.
كانت البلدة عرضة لغزوات البدو من مضاربهم القائمة على التلال المجاورة لجهة الجنوب والجنوب الشرقي. لم تتوقف هذه الغزوات حتى إعلان دولة اسرائيل وإقفال الحدود عام 1948.
بدأت الهجرة من رميش إلى البلاد البعيدة “خاصةً في أميركا الجنوبية” . عام 1893، رحل بعض الأجداد على دفعات حتى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، أما من بقي فقد عانى المآسي من أعمال سخرة وتجنيد إجباري وأمراض سارية ومجاعة، زادتها حدّة موجة الجراد، حتى انتهى عدد السكان إلى حوالي 350 شخصا،ً بعدما كان عددهم يفوق 800 قبيل الحرب.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى بدأ التجاذب بين إنكلترا وفرنسا على تقسيم مناطق النفوذ، وشرع الإنكليز بفتح حدود فلسطين عبر ترغيب وترهيب الاهالي، كي يطلبوا بأنفسهم البقاء تحت سلطة الإنتداب البريطاني.
إختارت رميش والبلدات المحيطة الإنتماء إلى دولة لبنان الكبير، نظراً لتحدّر أهلها من جبل لبنان، وأرسلت كل بلدة مذكرة بهذا الشأن لمؤتمر الصلح. هذا الخيار أدى إلى حصول ضغوطات على الأهالي من قِبَل المجموعات المؤيدة للدولة العربية بقيادة الأمير فيصل في سوريا.
سرعان ما تحوَّلَ الصراع السياسي إلى فتنة طائفية، راح ضحيتها عدد من السكان بقي محدوداً إلى أن رفضت عين إبل شروط الإستسلام، فقامت العصابات الموالية لفيصل بالهجوم عليها في 5 آيار 1920 مما أدّى إلى مصرع زهاء 95 شخص ونهب البلدة وتدميرها بالكامل، وتهجيرها مع البلدات المحيطة (رميش ودبل) بشكل أساسي.
شكَّل الجيش الفرنسي قوة قامت بحملة إستطاعت إعادة السكان إلى قراهم وفرض تعويضات على المعتدين، واختارت فرقة فرنسية تلة مشرفة على بيوت رميش تمركزت فيها وزرعتها بالصنوبر.
إذاً، دخلت رميش تحت الإنتداب الفرنسي الذي استمر من العام 1920 حتى حصول لبنان على استقلاله عام 1943.
وجود رميش في المنطقة الحدودية حتَّم على أهلها العيش في قلق وتلقّي صدمات كثيرة.
السياسة التوسعية أثرَّت على رميش سلباً، فالبلدات المجاورة جنوباً كانت تشكّل جزءاً من المحيط السياسي والإقتصادي للبلدة، هذه البلدات أصبحت بين ليلة وضحاها في بلد أخر، يفصلها عن رميش سياج محمي بعسكر، يراقب التحركات ويفرض ضرائب على التجارة.
عام 1948، استقبلت رميش نسبة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الذين دامت اقامتهم فيها حتى أوائل الخمسينيات، حين تم توزيعهم على مخيمات في الداخل اللبناني.
بدأت رميش تتعرض منذ ستينيات القرن العشرين الى مضايقات مارستها عليها المنظمات الفلسطينية، هذه المضايقات ازدادت وتيرتها مع توقيع إتفاق القاهرة عام 1969، وصولاً إلى حصار المنطقة التي عرفت تحت إسم “الشريط الحدودي” بعد إندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975، وما عقبها من احتلال إسرائيلي دام من العام 1978 الى العام 2000.
استمر تدفق النازحين إلى البلدة على فترات متلاحقة منذ تاسيسها، وأبرز محطات النزوح بعد 1948، كانت نزوح أهالي شرق صيدا عام 1986 حين وصل إلى رميش أكثر من 600 شخصاً أقاموا مدداً متفاوتة، حتى أن بعض العائلات استقرت فيها، وبقيت لتاريخ اليوم.
أثناء حرب تموز عام 2006 قدم إلى البلدات عائلات من مختلف بلدات الجوار على إختلاف إنتماءاتهم، حيث لجأ إلى كنيسة التجلّي وحدها أكثر من 800 شخص، هذا بالإضافة إلى العديد من العائلات التي سكنت في بيوت أصدقاء لها ومعارف. كما شكلَّت رميش حينها مركزاً لتجمّع العابرين من مختلف بلدات قضاءيّ مرجعيون وبنت جبيل، إلى بيروت عبر الناقورة.
رميش اليوم
– في السياسة: تتمثل رميش في الندوة البرلمانية من خلال 3 نواب في دائرة بنت جبيل من محافظة النبطية، ويقوم فيها مجلس بلدي مؤلف من 15 عضواً، بالإضافة إلى أربعة مخاتير.
– الإقتصاد: تعتمد نسبة كبيرة من العائلات المقيمة في رميش على الزراعة، حيث يعمل الجزء الأكبر في زراعة التبغ الى الأشجار المثمرة التقليدية، كالزيتون والتين والعنب والرمان والتوت، بالإضافة إلى زراعات موسمية من البقول والخضار.
يتجه شباب رميش بأعداد ملحوظة إلى الوظائف العامة من عسكرية ومدنية.
تتوفّر إستثمارات أهم مصادرها من المغتربين من أبناء البلدة، وقد أدَّت إلى إنشاء مؤسسات بدأت بإستيعاب اليد العاملة الرميشية والوافدة اليها من بلدات الجوار، وحتى من خارج لبنان، في قطاعات إنتاجية، فضلا عن الزراعة، كالصناعات الخفيفة والتجارة، وبخاصة في مجال البناء.
– الصناعة: لم يكتفِ أهل رميش من خلال عملهم خارجها بجلب الراساميل، إنما جلبوا معهم خبرات ساعدات في تطوير الصناعات الموجودة، والشروع بمشاريع صناعية جديدة، نذكر منها صناعة الألبسة الداخلية والمفروشات، والمحارم الورقية، والصناعات الحديدية، والبناء.
أما صناعة الأغذية التي اشتهرت فيها البلدة منذ قرون، فأصبحت تشمل عصر الزيتون، صناعة الألبان والأجبان، تحميص البن والبزورات، وأنواع الخبز والحلويات، والشوكولا، وصناعة النبيذ التي تطورت في الفترة الأخيرة، مع قيام مؤسسة عائلية بإستثمار مساحات واسعة وزرعها بالكرمة.
– التجارة: تُعتبَر رميش تقليدياً سوقاً لعدة سلع كان يتم تبادلها بين بلدات الجوار، هذا الدور الذي فقدته بعد إقفال الحدود، عادت واستردّته عبر المؤسسات والمراكز التجارية التي تكاثرت، وبخاصة في منطقتي الكروم والمرج. هذه المؤسسات تتضمن سلعاً وخدمات يقّل وجودها في المنطقة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: عدد من السوبرماركت تتأمن فيها مختلف المواد الغذائية والمنزلية والكهربائية، أخصائيو التغذية، إخصائيو التجميل، إخصائيو التزيين وتنظيم الإحتفالات للأعراس والمناسبات الكبرى، إخصائيو النظر، مصممو أزياء، الخ…
– التعليم: توجد في رميش مؤسسات تعليمية رائدة في المنطقة، وعلى رأسها فرع جامعة الروح القدس الكسليك، الكائن في حرم دير سيدة البشارة، إلى جانب مدرسة تابعة للدير تعلم اللغة الانكليزية .
ثانوية رميش الرسمية انطلقت عام 1974، وكان لاستمرارها تأثير إيجابي على صمود الأهالي في رميش والمنطقة طوال زمن الحرب، كما كان لوجود هذه الثانوية الفضل بإستيعاب مهجري شرق صيدا عام 1986.
كما يوجد في رميش دور حضانة ومعهد مهني ومدرسة رسمية، بالإضافة إلى مدارس خاصة، أبرزها مدرسة سيدة لبنان للراهبات الأنطونيات.
توافر المدارس والمعاهد والكليات وتعدد إختصاصتها، حوَّل رميش مع الوقت إلى مركز إستقطاب ثقافي،
إذ تعتبر اليوم من البلدات العشر الأولى في لبنان، من حيث مستوى التعليم، فبعض طلابها يفوزون بالمراتب الأولى في كافة الإختصاصات، ويحوز أبناؤها على أكثر من 700 شهادة جامعية، بالإضافة إلى وجود عشرات الدكاترة في مختلف الإختصاصات بين أبنائها.
– العمران: بقيت مباني رميش محصورة بين البركتين ( الفوقا والتحتا) حتى خمسينيات القرن الماضي، حيث بدأت تتوسع في مختلف الإتجاهات.
بيوت رميش اليوم تشكّل دائرة كبيرة حول البركتين، بالإضافة إلى زحف البناء إلى نواحي المرج والكروم وكورة القديمة، والعريض الغربي وجباب العرب وخربة كرسيفا، والمعتق والوعرة، وبعض مساحات خربتيّ سموخيا وقطمون.
– السياحة: تعتبر رميش بلدة سياحية بإمتياز، فهي تحتوي على ثلاثة منتجعات كاملة : (فندق، مطعم ، ومسبح)، بالإضافة إلى العديد من المطاعم والمقاهي والسوبرماركت…
للسياحة الدينية معالمها ايضاً، حيث يجد الزائر كنيسة مار جرجس الأثرية وكنيسة التجلّي التي بدأ بناؤها منذ عام 1983 وأُعيد ترميمها وتحديث ديكورها مؤخراً، بحيث صارت تشبه اهم كاتدرائيات الغرب. كما يجد دير سيدة البشارة وديراً للراهبات الأنطونيات.
خربة قطمون تحتوي آثاراً من مختلف العصور،أبرزها قلعتها التي بنيت في العصر الروماني واستعملها في ما بعد الصليبيون والعرب والأتراك، قبل وصول المونسنيور يعقوب غانم الذي أقام فيها في أواسط القرن التاسع عشر، وجعلها مقراً لأبرشية عكا المارونية إثر تعيينه عليها، ورمّم فيها كنيسة صغيرة كانت للصليبيين على إسم مار يعقوب. هذه الكنيسة مهجورة اليوم وقد تهدّم قسم منها.
ومن المعلوم أن البلدية تقدمَّت بطلب تحديد وتصنيف لأراضي البلدة، ولكن يبدو أن التأخير ببتّه يعود إلى أسباب سياسية في الظروف الراهنة.
والجدير بالذكر، أنّ اللواء الركن الشهيد فرنسوا الحاج يعتبر من أبرز الشخصيات الرميشية المعاصرة، حيث أقيم له نصب تذكاري في وسط البلدة على البركة التحتا “الشرقية”، وحديقة باسمه على كتف الوعرة.
مجلة أورا – العدد 12