“ إنفجر رجل إيطالي يبلغ من العمر 93 عامًا بعد إصابته بالفيروس التاجي، باكيًا عندما طُلب منه دفع تكلفة استخدام جهاز التنفس الصناعي نهارًا كاملاً. عندما سأله الطبيب لماذا يبكي، أجاب: ” أبكي لأنني بفضل الله، تمكنت من التنفس مجانًا على مدى 93 عامًا، بينما يجب في هذا الزمن أن أدفع 500 يورو بدل يوم واحد من التنفس الاصطناعي. تخيَّل الدَّين الضخم الذي يترتب عليّ تسديده للّه !!“
أردت البدء بهذا الخبر الذي تناقلته وسائل التواصل الإجتماعي، ولو أنه الى حدّ ما من خارج السياق، توطئة لموضوع يشغلنا: ضمان الشيخوخة. لذا كان لا بدّ لي أن أستشير الطبيب الألماني اللبناني الصديق، الدكتور أمين بلّوز* الذي سألته عن تجربته في مجال رعاية المرضى: “أن مرافقة الناس في نهاية الحياة هي مسيرة توقظ الكثير من الحركة والنمو الداخلي، وهي عملية تؤدي ببعض الأشخاص إلى إدراك نهاية حياتهم بوعي وقبول الموت. فتشخيص مرض خطير من الأمور التي تغير كل شيء. ذلك ان انعدام الأمن والحزن والخوف تنسلّ ايضا الى حياة الأهل. اننا نطبق مشاريع وزارة الشؤون العائلية الاتحادية لجهة العناية بالمرضى في آخر مراحل الحياة وتخفيف آلامهم والوقوف الى جانب المحتضرين وأهلهم وتقديم العون لهم. فالموت هو ذلك الجانب من الحياة الذي يثير الخوف ويطرح اسئلة ويسبب القلق”.
هنا يتجلّى معنى العمل بالسيرة الذاتية والطريقة التي تمكّن المرافقين من المساهمة في النضج الداخلي للمشرفين على الموت.أمّا المشاركة المهنية – أكانت من جانب موظّف أم متطوّع – فتختلف عن الرعاية التي تأتي من أفراد الأسرة. يقول الكاتب والصحافي النمساوي ستيفان تْسفايغ:
“إن مَن تحبّ لم يغِب.
فالحب هو الحضور الأبدي “.
“برأينا أن الطريق المشترك لمصاحبة الأشخاص في نهاية حياتهم يشكّل بالنسبة الى المرافقين جزءا من مسيرتهم الذاتية ومرحلة من حياة من نودّعهم في رحلة مجهولة وإلى ديارغير معروفة.
أتعجّب لدى مرافقة أشخاص مشرفين على الموت كيف أن أناسًا شديدي المرض يحرصون على توضيح أمورعزيزة على قلوبهم أو يأخذون على أنفسهم أوضاعا حياتية جديدة في غاية التعقيد وهم على فراش الموت. انها سبل الإنسان المختلفة التي ترافقها عملية داخلية تجد فيها الخلوة الى النفس واللحظات الهادئة مكانها وزمانها.
بالنسبة لي شخصياً قد عايشت برهات من الثقة وتحمّل الصمت المشترك وببساطة أوقات لقاء فعلي عميقة الأثر. كما ان التركيز على الإدراك الحسي ومراقبة اللحظة دون الحكم عليها والتأمل في مشاعرنا الخاصة وتلمّس الذات تخلق في داخلي حيّزا مفعما بالاحترام العميق لنظيري”.
ترى الدكتورة مونيكا رِنتس، مديرة قسم الأورام النفسي في مستشفى سانت غالن السويسري (القديس غال)، أنه يجب وضع المشرفين على الموت في صورة عواقب البقاء في عزلة. وتضيف ان المواجهة الصادقة تأتي من المشاهدات والملاحظات التي تعيشها في قسم الرعاية الملطِّفة. ففي بعض الأحيان يتعين إخبار المحتضرين الذين “رجعت لهم حيويتهم” في مكانهم المحمي، أنهم مضطرون للتسجيل في دار رعاية أو مرفق آخر تحت ضغط شركات التأمين الصحي. وبخيبة أمل واكتئاب في البداية، يعود الأشخاص المصابون بأمراض خطيرة الى حاجتهم الأصلية، أي إلى الرغبة في الموت وتركهم وشأنهم. ونتيجة لذلك، يمكن أن يفارق معظمهم الحياة قبل نقلهم إلى مؤسسة أخرى.
“الإجراء الصحيح (؟)”
يتطلّب الموت اليوم اتخاذ قرارات. وهذا يفترض تحمل المسؤولية الذاتية والتضامن.
تريد امرأة تبلغ من العمر 76 عامًا مصابة بمرض عضال العودة إلى المنزل بعد إقامة مرهقة في المستشفى تلتها إقامة في دار للعجزة. هي تصرّ على العودة الى المنزل كي تموت في ألفة، وتستعيد مرة أخرى عبق الورد في حديقتها. في دار العناية، لفتت الإنتباه بسبب سلوكها المعاند. هنا طلب الطبيب المسؤول إخضاعها للفحص من قبل طبيبة نفسانية للتحقق مما إذا كان إيصالها إلى قسم الأمراض النفسية ضروريًا. وجاء الدعم من شبكة اجتماعية فاعلة والعلاج الملطّف والتمريض في العيادة الخارجية، ما مكّنها من العودة إلى منزلها الذي ترتاح اليه. وفي غضون أيام قليلة فارقت الحياة.
الموت سرّ، بل لغز لن نفهمه كمرافقين أبدًا، تمامًا كما اننا لن نستطيع استيعاب البشر في عمليات التغيير.
الموت هو أعمق طريق شخصي في الحياة لم يسبق له مثيل، شأنه شأن أي إنسان.
العمل بالسيرة الذاتية
كل حياة هي فريدة من نوعها باليُسر والعُسر، ونوائب الدهر والنجاحات، والتغلب على الأزمات والمخاوف وخيبات الأمل والذنب. في نهاية الحياة، ثمة لدى العديد من الناس حاجة ملحة لتسوية حسابهم. يشعرون بالرغبة في إعطاء حياتهم الماضية معنى.
في سياق السيرة الذاتية، يتذكر المرء حياته الخاصة فيبثّ فيها الروح من جديد. تكون السيرة بالنسبة للراوي صحيحة بقدر ما يجري سردها بأمانة. من الناس من يراها مروّعة وشاقّة وآخرون يعتبرون أنهم قرّروا مصيرهم بأنفسهم ويبدون ارتياحهم لما حققوه. الأشياء الصعبة يمكن كبتها وتناسيها. عمل السيرة يدعوك إلى أن تتذكر وتحسّ تماما بالإضاءة على الأوضاع الحياتية، وما بلغته تحت أوجه جديدة، وتجاوز الماضي وتنظيم وترتيب المهام غير المكتملة، والتصالح مع الذات وحتى مع العالم. يفتح عمل السيرة إمكانية الحداد، وربما أيضًا إصلاح ذات البين وإعادة ترتيب بعض الأمور. بمرافقة الناس في نهاية حياتهم، نساعدهم على أن يدركوا الى أي مدى تؤثّر فيهم حياتهم الشخصية ومواقفهم وقيمهم والدين والثقافة والعصر وتطبعهم بطابعها.
يضيف الدكتور بلوز: أذكر امرأة تجاوزت سن التقاعد، قد أعربت عن أسفها لعدم الحصول على البكالوريا أو القيام بدراسة جامعية. تقول انها لو تخرجت من المدرسة الثانوية، لكانت حياتها أفضل، مع المزيد من المال وبيت مُلك وعمل أقل مشقّة وسعادة زوجية أكبر. لقد تمكنت، في عملها على السيرة الذاتية، من النظر بعين فاحصة الى الصراعات الداخلية ومشاعر الذنب التي عاشتها. وعلى مرّ السنين راحت تلقي باللاّئمة على والديها لعدم حصولها على الشهادة الثانوية وشدّ أزرها بصورة كافية. وارتفعت مشاعرالغضب والمرارة لديها. قصة حياتها، التي شاءت أن أشاركها إيّاها، على سبيل المثال، كيف كانت تدرك وتنظر الى والديها وزواجها وعملها حتى التقاعد، ساعدتني على فهمها والتعاطف مع تجربتها الشخصية.
إن النظرة المتباينة للزمن الذي عاش فيه والداها، وطبعهما بطابعه وظروف الإطار السياسي خلال سنواتها الدراسية، كل ذلك مكّنها من إلقاء نظرة جديدة على حياتها الشخصية. نظرة أكثر انفتاحًا على والديها، وأصبحت حياتها وأخيرًا شخصها أمرًا معقولا. في الأسابيع الأخيرة من حياتها، كانت قادرة على عيش وتقدير الأشياء الجيدة والخيرة وكيف أتقنت صعوبات حياتها.
في قصيدة هيلدا دومين بعنوان “الدرس”، يكتسب الموت، خاتمة حياتنا، معنى “حقل مجهول ” يكون فيه المحتضرون المعلمين والباقون هم الطلاب. إنه “درس ثمين” عندما يقيّم المرء حياته، ويسوّي حسابه الخاص، عند الحدّ الفاصل بين الدنيا والآخرة. تجربة، نظرة ثاقبة الى تطور الذات، خبرات مكتسبة، عملية نضج داخلي يجري تحفيزها. “كل من يرحل يعلّمنا بعض الشيء”، يدعونا الى إدراك نضجنا وعمقنا وتدبير حياتنا.
“موتك وموتي هما الدرس التالي” – تخطّي اللاّمعقول. وعند الرحيل والوداع الأخير، يختبر المحتضر دروسًا في موضوع مجهول، إذ يتعلق الأمر بقبول واستساغة موته بالذات. “الدرس”، إنما هو دعوة لدمج الصراع مع الحياة والإحتضار والموت في حياتنا، واختبار النمو والنضج الداخلي.
الإهتمام بالآخر
تحتاج رعاية الآخرين في نهاية الحياة إلى حب الناس والإبتعاد عنهم في آن.
فالإهتمام بالأهل متجذرة في العلاقات الأسرية والعاطفية التي تساهم في طبيعة الموقف الرعائي. بالمقابل تحمل المرافقة المأتمية التي يتولاّها موظفون أو متطوعون طابعا “مهنيا”. هذا ينطبق أيضا على عمل السيرة.
ما هي الخصائص التي تمتاز بها مراكز الرعاية الملطِّفة التي يلجأ اليها المرضى في أخر مراحل حياتهم؟ تسمي غيردا غراف ثلاث سمات مميزة لتلك المراكز: حب الناس وإرادة التعلم مدى الحياة والتأمل الذاتي الناقد. وشعارها: “كل لحظة هي الحياة. الإهتمام بالأشخاص الذين يقدّمون يد العون”.
يتضمن قبول الآخرين بهذه الطريقة أيضًا قبول الذات، والتفكير في أفعالك والنظر إلى الداخل ينمّي شخصيتك ويفتح آفاقا جديدة. نحن ننضج بالتفكير. وتصبح رعاية الآخرين انعكاساً لرعايتي الذاتية.
إن العمل بالسيرة الذاتية ليس فقط في نهاية الحياة يجعلنا ندرك قابليتنا للموت، بل يجعلنا أيضًا على دراية بمعنى وقيمة أفعالنا. من خلال إدراك مدى تأثير أنماط حياتنا علينا، لدينا الفرصة لنودعهم داخليًا وندبّر حياتنا بثقة.
تصبح الحياة موضوع نزاع أثناء عرض سيرتك الذاتية بتبصّر. وهذا يتيح النمو الداخلي من خلال المعرفة والخبرة المكتسبة في البحث عن الحقيقة.
* ولد أمين بلّوز في بيروت خلال عام ما سمّي بثورة 1958. بعد حيازة البكالوريا سافر الى المانيا 1976 على أثر تفاقم الوضع السياسي والأمني في لبنان سعيا وراء تحصيل العلم وتحقيق حلم رافقه سنين عديدة. درس الطب وكان هدفه على الدوام خدمة الإنسان حيثما وجد. إفتتحح عيادات طبية في أكثر من مقاطعة ألمانية الى أن استقر في مقاطعة براندنبورغ القريبة من برلين، حيث يدير عيادتين في منطقة شْفيت. هو اليوم من أشهر أطباء الريف. ذاع صيته حتى خارج حدود ألمانيا لقربه من مرضاه. في هولندا كتبت عنه الصحف ريبورتاجات طويلة. في اسكتلندا، التي كان يمضي في ريفها ثلاثة ايام في الأسبوع، نشر إعلامها المرئي والمكتوب تقارير عن نشاطه فيها وأشاد بصدقه في التعامل مع المرضى. في المانيا ما زالت صحفها ومجلاتها، سواء على صعيد المقاطعة أو المركز، تخصص الصفحات المصورة لمتابعة نشاطاته على أنواعها وبخاصة الرسم والحفر على الخشب… وجاء في احدى الصحف المركزية ان المحطة التلفزيونية الألمانية الأولى ZDF بصدد إعداد مسلسل من 6 حلقات بعنوان ” Ballouz “. أخيرا وليس آخرا نقول أن كتابا مصوّرا قد صدر عام 2015 يتناول “حياة الدكتور أمين بلّوز، طبيب الريف” بقلم الصحافي ياسبر فابيان فنتسل في 176 صفحة.
في ما يلي مقتطفات من احدى الصحف الألمانية:
هل تعاني من تعب الاندماج؟ طبيب الريف الدكتور أمين بلوز من لبنان لديه علاج شاف.”الاندماج”، هذه الكلمة التي هي حاليا موضوع العديد من المناقشات السياسية، لا تتعدّى كونها مصطلحًا مجردّا، كالطبل الأجوف. لكن ما هو أقوى صدى يشبه التالي: الجهد، العمل، التكيف، الملاءمة والطاعة.
ما من شك أن ألمانيا تواجه جهدا كبيرا في اندماج اللاجئين. ولكن من أجل البقاء قويًا، عليك أيضًا ألا تفقد لذّة القضية. من أجل ذلك ثمة دواء ناجع ضد تعب الاندماج والعمل في اتجاهه – يقدمه الدكتور أمين بلوز.
جاء اللبناني المولد إلى ألمانيا عام 1976 لاجئا بعد رحلة مغامرة ويعمل كطبيب ريفي في Uckermark منذ 2010. تقع المنطقة في الجزء الشمالي من ولاية براندنبورغ، وهي منطقة ضعيفة هيكليًا، غالبًا ما توجه البها أصابع الإتهام فيما يتعلق بالهجرة وكراهية الأجانب. كان بلوز لا يزال في استقبال جيد للغاية من قبل الناس هناك.
هذا غالبًا لا يؤتي ثماره ماليًا للطبيب ، لكنه وجد منزله مع سكان Uckermark. يمكنك فقط الحصول على ما يرام مع بعضها البعض. يقول بلوز “مرضاي هم عائلتي”.
عندما كان مراهقاً في لبنان بالسبعينيات، رأى بلوز الكثير من الأشياء الرهيبة: بعض زملاء الدراسة لقوا مصرعهم. مصابون وجد نفسه ملزما للإعتناء بهم. كانت عائلته ممزقة. كان الطريق من هناك إلى Uckermark طويلا: دراسة الطب في مدينة هاله، العمل كعامل إغاثة في حالات الكوارث، ممارسة المهنة في دوسلدورف. وأخيرًا الانتقال إلى ريف براندنبورغ، حيث الحاجة ماسة للأطباء.
د.ايلي مخول