طريق البخور، مثل قصة جميلة من كتاب مصوّر للأطفال، هو قصة نجاح تجاري يعود إلى ما يقرب من 5000 عام. في الواقع، قبل 3000 سنة من ولادة السيد المسيح، كان اللُّبان أغلى من الذهب. وقد أسرت رائحته الفراعنة كما الأباطرة الرومان. ولتلبية مطالبهم تم إنشاء طريق تجاري بين ساحل عُمان الجنوبي والأراضي المقدسة.
“ملكة الجنوب” تسلك “طريق الذهب والبخور”وتأتي إلى سليمان الحكيم لتلقي عليه الألغاز وتسمع أقوال حكمته: كتب العهد القديم تتطرّق هكذا عرَضًا، الى أسطورة ملكة سبأ بلقيس التي يعلو تمثال لها نُصب في زمن لاحق فوق المدخل الشمالي لكاتدرائية شارتر الفرنسية (1145 – 1150). وراء الأسطورة حقيقة تاريخية: واقع ممالك في الجنوب العربي قام ازدهارها، من بين أمور أخرى، لعدة قرون، على تجارة البخور. ممالك تناظراليمن الحالية، الأمر الذي يصعب تصديقه، بفعل المصائب التي أرهقته، والذي يبقى وريث بلاد العرب السعيدة (أو العربية السعيدة) التي سحرت اليونانيين والرومان معًا.
رهان دائم على خصومات جيوسياسية
كان البخور بادئ الأمر قضية مصرية. فمنذ الألفية الثالثة، ارتبط النيل بأرض البنط الأسطورية، الواقعة بلا ريب شمال شرق الصومال الحالية؛ ثم جاء تصوير ساحورع، فرعون الأسرة الخامسة، جالسًا أمام شجرة بخور أو واقفا، يحزّ قشرها بعد ألف عام، أرسلت الملكة حتشبسوت (الأسرة الثامنة عشرة، بداية السلالة للمملكة الجديدة) بعثة مشهورة عادت، إضافة إلى صمغ البخور، بالمر والذهب وجلود النمور.
لكن طريق البخور الحقيقي الذي يمتد على طول 2500 كيلومتر، من الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية إلى بلاد المشرق – لم يظهر إلاّ في القرن الثامن، مع تدجين الجمل. كانت تتكون القوافل من مئات الحيوانات، التي تصل حمولة كل منها الى 200 كيلوغرام، وتستغرق من شهرين إلى ثلاثة للوصول إلى بلاد المشرق، من هذه الجزيرة العربية السعيدة الواقعة، بحسب بلينُس الأكبر، (من علماء الطبيعة الرومان، اقترب من بركان الفيسوف عند انفجاره ليتأمله عن كثب فاختنق. له كتاب “التاريخ الطبيعي”، وهو مفيد للإطلاع على معارف الأقدمين). وراء مخرج النيل في تل الفرما الواقع شمال قرية بالوظة علي طريق القنطرة–العريش عند مكان مصب الفرع البيلوزي القديم لنهر النيل. يغمره البحر الأحمر، وهو مليء بالعطور والثروات؟. بعبارة اخرى ان تضريس الأرض والري قد ساعدا في الظهورالمبكر لحضارة مدينية، متقدمة تكنولوجياً، تتعاطى التجارة مع الهند والخليج وأفريقيا، ما دفع المؤرخ والرحالة اليوناني هيرودوتُس الى تعيين المنطقة على الطرف الجنوبي لليابسة، والتحدث في موضوع إنتاج البخور، عن أسطورة جد مميزة تتناول انتماءه الهلّيني.
” العربية هي، في الجنوب، آخر إقليم مأهول، والوحيد الذي ينتج البخور والمر والقرفة والكافور. يتم الحصول على البخور عن طريق بخار الّلُبني (جنبة معمّرة تزرع لاستخراج صمغ يستعمل في تثبيت العطور وتعرف بالأصطرك أو المَيعة) التي كان يوفرها الإغريق والفينيقيون… ” هيرودوتُس، قصص، الجزء الثاني، 107.
من السهل أن نرى لماذا تعتبر رواية بلينُس الأكبرأكثر مصداقية! يقول هذا الأخير انه يجري نقل اللبان من شَبوة، عاصمة حضرموت إلى أراضي الجبانيين. ثم تصل، من عاصمتهم، تمنا (تمنة)، إلى غزة في فلسطين. ومع ذلك، تم إعادة بناء المسار المحدد لطرق القوافل جزئيًا فقط من قبل علماء الآثار، للمنطقة الممتدة من اليمن إلى نجران، شمال الحدود الحالية مع المملكة العربية السعودية. خارج هذا النطاق وحتى البتراء، مدينة تقاطع الأنباط يبقى عدم اليقين سائدا. شيء واحد مؤكد، هو ان هذا الطريق مركّبا من واحات، يبلغ عددها خمسا وستين، بحسب بلينس، رقم أكده علماء الآثار. تلك الواحات التي كانت بمثابة محطات للاستراحة والتزوّد بالمياه والأعلاف، وأثُرت بالضرائب التي تم جمعها، قد أصبحت مدنًا حقيقية في العصر الهلنستي. إذن وبطريقة جد عصرية، اعتمد طريق الحرير على شبكة من الجهات الفاعلة والأقاليم المترابطة. يرى أليساندرو دي ميغريت أن ثقافة الجنوب العربي المبكرة ترقى إلى القرن الرابع عشر ق. م. أو حتى قبل ذلك، ولكن مع وجود فجوة بين ذلك الحين وبين الثقافة المختلفة جدًا للعصر البرونزي التي سبقتها؛. ويقول “انها (أي الطريق) لم تكن لتوجد لو أن أبطالها (الولايات الشمالية والولايات الجنوبية) لم يدركوا الحاجة إلى التجارة الدولية”. ويخلص الى أن العرب الجنوبيين ربما كانوا في الأصل من البدو الرحل الذين جاؤوا من الشمال واخترقوا سكان العصر البرونزي.
في المقابل، تخدم أرباح التجارة منطق القوة، مع تشكيل دول تكون عواصمها مجهزة بأسوار ومعابد ضخمة. في الجنوب، يتأكد الواقع التاريخي لمملكة سبأ وعاصمتها مأرب من خلال النقوش الآشورية العائدة الى القرن الثامن، وذلك بعد قرنين من اللقاء الأسطوري بين الملكة وسليمان. فليس من المستغرب أن تصبح تجارة البخور خاضعة للرهان الجيوسياسي: إذا كانت السيطرة للصابئة بادئ الأمر، فقد تخلّوا عنها منذ القرن السادس إلى مملكة معان، ليستعيدوها ثم يفقدوها ويسترجعوها مرة أخرى … في الشمال، يفرض الأنباط هيمنتهم في القرن الأول، انطلاقا من عاصمتهم، البتراء، التي هي اليوم أسمى المواقع السياحية الأردنية. إلى الجنوب، يستقرون في الحِجَر التي تعرف اليوم بمدائن صالح، التي تندرج اليوم ايضا على قائمة اليونسكو، والتي تعمل المملكة العربية السعودية حاليًا على فتحها للسياحة.
كلمة يجب معرفتها: بخور
يعود الفضل في تعيين نوع شجرة البخور الى الباحث في الطبيعة الألماني فلوكيغر Flückiger عام 1887. بعد حزّ القشر، يخرج صَمغ يتصلّب عند ملامسة الهواء في شكل دموع ملوّنة. إنه عطرها، الذي يتم الحصول عليه عن طريق التبخير، الذي يجعل البخور (من تبخّر: احترق) مادة مقدسة، “توقظ وتطهر الحواس لتجعلنا أنظف للتأمل؟” (المرجع: محاولات للشاعر شارل بودلير في المراسلات، يجعلها علامة على الغرابة، الروائح “؟ فاسدة، غنية ومنتصرة، لها انتشار الأشياء التي لا حدّ لها، مثل العنبر والمسك ولبان جاوة والبخور؟”). إنها تحتل بالفعل مكانًا رئيسًا في الحياة الدينية المصرية، حيث يقوم الفرعون نفسه بالتبخير.
في القرن الأول الميلادي، كان الازدهار النبطي مهددًا. من الناحية السياسية، ضمت روما المملكة تحت حكم تراجان، في العام 106، لتصبح إقليم العربية. إلاّ أن اكتشاف نظام الرياح الموسمية بخاصة من قبل الملاح اليوناني هيبالوس قد اصاب منه (أي من الإقليم) مقتلاً: فمن الآن فصاعدًا، أصبح من الممكن تصدير البخور عن طريق البحر الأحمر! هنا تشكل رحلة البحر الإريترية، وهو نص مجهول مكتوب باليونانية، مصدرا على جانب عظيم من الاهمية كونها تأتي على وصف سواحل الخليج وغرب الهند. ثمة رَيب واحد: هل كان هذا التحويل قاسيا، على حد ما قاله المؤلفون التقليديون وظهور مواقع مرفئية في الجنوب العربي؟ أم تقدميا، كما تشير الدلائل ؟ سؤال آخر: أي جزء من إعادة تعريف طرق التجارة في تراجع ممالك القوافل في العربية السعيدة؟
أخبار الملوك: تنحدر السلالة التي حكمت إثيوبيا حتى 1974 في خط مستقيم من منليك، ابن سليمان الأسطوري وملكة سبأ.
كان البخور يشحن أيضًا إلى بلاد ما بين النهرين، كما يتضح من نقش آشوري عائد الى القرن الثامن يشير إلى مصادرة ملك سوخو لقافلة في منطقة الفرات الأوسط.
سنقرأ باهتمام كبير الرواية العلمية انما القصيرة لعالم الآثار الإيطالي اليساندرو دي ميغريت (“؟ طريق البخور لقافلة البخور في العربية ما قبل الإسلام. عناصر معلومات حول بيان الرحلة وتسلسل أحداثها التاريخي؟”). العلوم الإنسانية العربية، العدد 11، 2003) والذي يختتم بمصداقية معلومات بلينس: “؟ نصل إلى ما مجموعه 2560 كيلومترًا يجب اجتيازها في 62 الى 66 يومًا. نرى أننا لسنا بعيدين عن الرقم 65 الذي يمثل المراحل الضرورية بحسب بلينس لتغطية المسافة بين تمنة وغزة. في القسم الذي قمنا بفحصه، يبلغ متوسط المسافة المقطوعة في يوم واحد من المشي 41.6 كيلومترًا، وهو ما يتوافق مع متوسط سرعة رحلة على ظهر جمل في العربية وفقًا لتعليقات المسافرين والمستكشفين .؟ ”
في العام 2018، وقعت الرياض اتفاقية سياحة وتنمية ثقافية مع فرنسا. وتعمل بعثة أثرية فرنسية سعودية في الموقع منذ عام 2001.
*تعليق الصورة:”مدينة البتراء النبطية كانت مركزا مهما لتجارة البخور”*
د.ايلي مخول