تنبّهت أوروبا إلى ذاتها في العصور القديمة. صحيح أن معالمها لا تزال غير محددة جيدًا، لكن الشعوب التي تسكنها لديها الحدس لتقاسم مصير مشترك.
ثمة أقاليم أخرى أكدت على هويتها في وقت مبكر جدًا: في الشرق الأدنى، من مصر إلى بلاد ما بين النهرين، حيث بنى ملوك وآلهة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد حضارات ستشملها الإمبراطورية الفارسية؛ الصين حيث تخطط الممالك المتحاربة مسبقًا لما ستكون عليه إمبراطورية (أسرة) هان. بالمقابل تظهر أوروبا قبل الميلاد على شكل بلاد فوضوية، حيث تتدفّق أهماج من البرابرة من وقت لآخر لنهب بعض من جُزرالحضارة. وكان لا بد من انتظار مجيء الإمبراطورية الرومانية لإيجاد بعض التنظيم، علمًا بأن تلك الإمبراطورية كانت أوروبية جزئيًا فقط. من هنا الإستنتاج المرحّب به وهو أن أوروبا لن تتأكد إلاّ مع حلول الأزمنة المسيحية.
هناك أوروبا من العصر الحجري الأخير، حيث تتكشّف مجدّدا أمام علم الآثار، في التقنولوجيات التي استخدمها الفلاحون الأوائل، ملامح أصلية خاصة بالقارة. لكن من الأفضل الإنطلاق من المرحلة التي أخذت أوروبا تعي ذاتها وتعمّ شهرتها. بدأ كل شيء مع الإغريق، لأنه في أوروبا حيث كان الزعماء معاندين إزاء الكتابة – كم من ملك وسلطة دينية عرفوها، لا بل استخدموها منذ أن كان الإغريق أو اللاتينيون يمارسونها، لكنهم رفضوها خِشية زعزعة سلطتهم! – أولئك كانوا أول من قام بتكييف الأبجدية التي استعاروها من الفينيقيين مع الاحتياجات النوعية التي تتطلبها لغة هندو- أوروبية ونقلها في شكلها اليوناني أو اللاتيني أو السيرِيليّ (له علاقة بأبجدية سلافية قديمة يقال ان مخترعها القديس سيريل) لاحقًا إلى مجمل القارة.
كما أنشأ الإغريق أدبًا نقديًا قائمًا على الأبحاث (Historia باليونانية وتعني تواريخ أو تحقيقات، مشتقة من histor أي الشخص العارف أو العالم. هو المؤلَّف الوحيد المعروف للمؤرخ الإغريقي هيرودوتُس، وأقدم نص نثري كامل وصل الينا من العصور القديمة، يتناول فيه تطور الإمبراطورية الفارسية ويتطرق الى الحروب الميدية التي دارت بين الفرس والإغريق، حيث أطلق على القبائل الميدية تسمية آريين)، أدبًا ينهض بأوروبا على ضوء الضمير. تقول الأسطورة أنه كان لأجنور، ملك صور، ابنة فاتنة تدعى أوروبا، رآها الإله زوس، رب أرباب الإغريق، وأعجب بها، فتحول إلى ثور أبيض جميل إختطفها وحملها إلى جزيرة كريت في الغرب، حيث أنجبت منه مينوس، أشهر ملوك كريت الذي تسمّت باسمه الحضارة الكريتية أُم الحضارة الإغريقية. لكن هيرودوتس يحذرنا من أن نرى فيها سهوًا كُنية أوروبا. بل الأرجح أن الكلمة مشتقة من الصفة أورو، أي رحْب، وتعني “القارة الشاسعة” التي، بحسب هيرودوتس، تمتد شمالًا على طول أفريقيا التي تقف عند النيل وآسيا التي تقصَّر إجمالاً نحو الشرق. يحيطها الماء من الجنوب والغرب؛ في الشمال لا نعلم. أما الحدود الشرقية فيعيّنها نهر روسي، يتماهى عمومًا مع نهر الدُّون الحالي. ولها محور مركزي: نهر الدانوب.
“الأرض الأكثر أهلية لقيَم ناسها”
لقد سبق أن عرفت أوروبا مصيرًا سياسيا، حتى لو لم يقرأ سلبًا في البداية. يشير هيرودوتس إلى أن المأثرة العظيمة التي حققها الإغريق، الضربة القاضية التي أُنزلت بالغازي الفارسي عام 480، لم تكن انتصارًا لهم وحسب؛ يقول قائد الحرب الأثيني تميستوكلِس في هذا الصدد: “لم تشأ الآلهة أن يحكم آسيا وأوروبا رجل واحد، أوروبا تلك التي كان الملوك العظام يحلمون بغزوها. لم يكن هناك معركة مشتركة، لكن انتصارات السكوثيين (شمال نهر الدانوب) والتراقيين (في بلغاريا الحالية) والإغريق المتتالية مرتبطة بالرؤية الجيوسياسية ذاتها.
إنها ليست مجرد نظرية للمثقفين، تقضي ببناء العالم على الخرائط. فقد تم اجتياز الفضاء الأوروبي الذي يسكنه سلتيون (يُطلق عليهم غاليين في الغرب، وغلاطيين من جانب الإغريق) وشعوب أخرى تتكلم لغات متميزة ولكن حضاراتها مشابهة، من قبل مغامرين جاؤوا للإثراء من خلال البحث عن المعادن، ولا سيما القصدير، وطرح منتج منطقة البحر الأبيض المتوسط الثمين: النبيذ. حتى انتصار روما، كانوا في الغالب يونانيين. أشاعوا طريقتهم في شُرب الخمر، حيث عُرفت بال “وليمة” symposion. كانت جزءًا مهمًا من الثقافة اليونانية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. تقام في منزل خاص حيث يلتقي ذكور يونانيون لشرب الخمر وتناول الطعام والغناء سوية. وكانت تناقش فيها مواضيع مختلفة في الفلسفة والسياسة والشعر وأمور يومية. تمت الإشارة إلى الوليمة على نطاق واسع في الأدب والمسرح والفنون التشكيلية اليونانية، وخاصة زخرفة الفخار. بذلك أصبح الخزف اليوناني الدائم دليلاً على تطور أولى المؤسسات التجارية الأوروبية.
إلى التبادل التجاري، كانت تجري مقايضة البشر: عبيد بجِرار، ولكن أيضًا محاربين في غارات السلب والنهب على المدن المشهورة بثرائها الفاحش، وبخاصة عند تجنيد قوات المرتزقة. يروي أحد رفاق الإسكندر أن الملك الشاب استقبل وفدًا رسميًّا من السلتيين الذين استقروا في منطقة بلغراد الحالية، جاء لاستمزاج نواياه. استقبلهم الإسكندر كما ينبغي، وأقام مأدبة على شرفهم، سألهم خلالها عن أكثر ما يخشونه؛ كان يتوقع أن يتم الاعتراف به باعتباره الأكثر رهبة؛ فأجابوا أنهم لا يخشون أحدًا، ما لم تسقط السماء على رؤوسهم، لكنهم يقدّرون الصداقة مع رجل مثله، ما يعني أنهم يعرضون عليه خدماتهم. في الواقع، أن المرتزقة السلتيين كانوا منذ القرن الرابع يُجنَّدون في جميع أنحاء العالم الإغريقي. وقد استقر بعضهم هناك، لكن ترويج النقود الذهبية التي تحمل رسم فيليبس الثاني والفضية من الإسكندر يظهر أن سوق المرتزقة إمتدّ إلى جميع أنحاء أوروبا الدانوب وإلى أبعد منها بكثير. ويصبح المال أداة للمجتمعات الأوروبية.
بعيدًا عن القصة الشهيرة للسماء وهي تسقط على الرأس، فإن إرادة الحرية هذه، التي تدفع أحيانًا نحو الفوضى، تبدو سمة مميزة لتلك الأرستقراطيات الحربية. عندما يذكر الجغرافي والفيلسوف والمؤرخ سترابو، في عهد الأمبراطور أغسطس، “أن أوروبا هي أفضل البلاد المؤهلة لقيمة رجالها ومؤسساتها السياسية “على الرغم من انقساماتها وحروبها، وذلك ليس من منطلق شوفيني (تزمت قومي)، إذ انه جاء من عائلة كبيرة في آسيا الصغرى، ولا من روح المناقضة، بل لأن أصالة أوروبا ورِفعة الأرستقراطيات تعكس وجهة نظر واسعة الانتشار في العالم الفكري اليوناني.