البحث في أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط، ينطلق من الهواجس والمخاوف والمخاطر التي يعيشها المسيحيون المشرقيون. فمن الشرق الأوسط، وتحديداً من أرض فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر، انطلقت البشارة. ومن هذه الأرض المقدّسة شعَّت أنوار المسيحية على العالم أجمع. لذلك ليس منطقياً ولا مقبولاً أن يتراجع الحضور المسيحي في هذه المنطقة، أو أن يتقلّص دور المسيحيين.
فالشرق المسيحي كان يحصي عشية الفتح الإسلامي لبلاد الشام نحواً من 30 مليوناً. وكان يشكّل عالماً متحداً تتوزعه بطريركيات ثلاث عّرفت بالبطريركيات الجنوبية الكبرى وهي: البطريركية الأسكندرية والبطريركية الأورشليمية والبطريركية الأنطاكية.
دارت دورة التاريخ. نشأت وتفكّكت امبراطوريات. قامت الحروب والغزوات والفتوحات. تغيّرت الدول والحدود. اندثرت جماعات وانتقلت أخرى من مواطنها الأصلية الى أماكن أكثر أمناً. هيمنت ديانات وحضارات وأنماط عيش. وإذا بالمسيحيين المشرقيين يقفون على حدّ السيف. نزاعهم من أجل البقاء الحرّ الكريم هو العنوان.
التوقعات متشائمة حول المستقبل، حيث يشير بعض الباحثين الى أنّ عدد المسيحيين المشرقيين سينخفض الى أقل من 6 ملايين نسمة سنة 2025، إذا استمرت معدلات الهجرة على حالها.
هل يسير مسيحيو الشرق في اتجاه الذوبان والاضمحلال؟؟ وما هو المصير؟؟
سؤال جدّي يُطرح كل يوم. فهذا الشرق المضطرب، المرصود للأزمات والنزاعات التي لا تنتهي، هل سيعرف السلام والنمو والازدهار يوماً ما؟ هذا الشرق، مهد الديانات والحضارات والفكر والإبداع، الذي منذ إنشاء اسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني، ومنذ اكتشاف النفط الذي أصبح عصب الاقتصاد العالمي، ومنذ بدأت تيارات وقوى ظلامية اسلامية نشاطها التكفيري الإجرامي، تحوّل موطناً للعنف والقتل والإرهاب والدماء.
إنّه شرقنا وجذورنا ضاربة في أرجائه، ولكن كيف يمكن أن نبقى؟؟ كيف ونحن نستيقظ كل صباح على أخبار عنف أعمى يضرب مجموعة هنا وأخرى هناك؟ كيف يمكن أن نحافظ على وجودنا الفاعل والمساهم في محاربة الظلم وفي بناء المستقبل؟
التاريخ يعلّمنا أنّ الأقليات تختار عادة واحداً من طريقين، إما الانغلاق على الذات والتحوّل الى عصبيات متحجّرة ترفض الانفتاح وتتمسّك بمحطات من تاريخها تدافع عنها حتى الموت؛ وإما التعاون والريادة والإبداع من خلال متابعة حركة المجتمع وديناميته، ومن خلال فهم علمي موضوعي للأحداث والتحولات.
إنّها معاناة جماعية ترتبط بالهوية والمصير. إنّه نزاع قاسٍ بين الرحيل عن الجذور والأهل والأحبة وعن تراب الأرض التي عشقناها، نحو الغربة الباردة القاسية، سعياً وراء الأمان والاستقرار النسبيين؛ وبين البقاء والصمود والمواجهة رغم الأزمات والمشكلات التي لا تُحصى. بلدان الاغتراب تجذب المسيحيين المشرقيين وأوطانهم تعيش في وجدانهم. إنّه نزاعٌ لا ينتهي بين المكان والمكان، بين الحلم والحلم، بين الهوية والهوية.
من موقع صحيفة الجمهورية للدكتور هيكل الراعي- باحث وأستاذ جامعي نُشر في 19/11/2021