شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | مقالات | “ما الذي يجعل بابل مدينة خالدة”
“ما الذي يجعل بابل مدينة خالدة”

“ما الذي يجعل بابل مدينة خالدة”

إعداد وتقديم د. ايلي مخول

نص مقابلة أجرتها مجلة ليستوار الفرنسية الأسبوعية مع المؤرخ الفرنسي جان-جاك غلاسنر، الإختصاصي في عالم ما بين النهرين واللغة المسمارية، والباحث في المركز الوطني للبحث العلمي.

أكبر مدينة في العالم حسب هيرودوتُس …

رمز الفجور وفق ما ورد في سفر التكوين … الأسطورة الذهبية والأسطورة السوداء يقترنان لتركيز كل الافتتان على بابل.

لِيستْوار: منذ متى تستأسر بابل القلوب؟

جان جاك غلاسنر: يجب أن نتذكر بأن اللغة البابلية كانت في النصف الثاني من الألفية الثانية، اللغة العامة للدبلوماسية والسياسة والتجارة في الشرق الأوسط. وصولاً إلى الفراعنة – تشهد على ذلك وثائق تل العمارنة – كانت المراسلات الدبلوماسية تجري باللغة البابلية المكتوبة بالخط المسماري.

في ذلك الوقت كانت الأساطير البابلية والقصص العظيمة والملاحم مثل گلگامش، كما والثقافة العلمية، كالعرافة، والتنجيم وعلم الفلك والرياضيات والطب وسواها  تُنشر وتُدرس في كل مكان، في مجمل الشرق. ويضاف إذن إلى ما يقابله من ثقافة وطب وعلم تنجيم محلي.

في النصف الثاني من الألفية الثانية، ليس هناك شك في أن الثقافة البابلية قد فرضت نفسها كمرجع كبير للشرق والبحر الأبيض المتوسط. من الواضح أن هوميرُس، الذي نسب إليه المؤلفون اليونان أشعار ” الإلياذة” و”الأوذيسة“، كان مطّلعا على ملحمة جلجامش وبعض الأساطير البابلية. في الأوذيسة هناك مقطع يتحدث عن لجوء بينيلوب إلى الحريم لتقديم القربان لآثينا (إلاهة الحكمة والقوة والحرب وحامية المدينة)،وهو بمثابة ترجمة شبه حلافية لمقطع من گلگامش. الإقتباس واضح.

إنه العالم البابلي الذي ساد في كل مكان تقريبًا، وعندما لم يتمكن من أن يفرض نفسه في حالته النقية، إستطاع أن يؤثر بشدة على طرق التفكير الأخرى. تم تداول النصوص البابلية. بالتأكيد شفويا، في مقتطفات. وهكذا نشأت بُوتقة في كل الشرق القديم، ودام ذلك ألف عام. هكذا انتقلت ذكرى بابل.

ليستوار: ماذا تخبرنا المصادر اليونانية والبابلية؟

حاول المؤرخون اليونان، هيرودوتُس وآخرون، رسم صورة لحضارة شرقية غريبة جدا، مختلفة عن حضارتهم. فنقلوا أحيانًا صورًا كاذبة ومبالغًا فيها، لكن رواياتهم تستند إلى مخبرين وشهود. يعطي هيرودوتس وصفاً للمدينة – ضخمة مقارنة بالمدن اليونانية – تعتبر موثوقة للغاية. ب المقابل، ينسب إلى نساء بابل عادات وتقاليد خيالية “همجية”: حسب قوله، فإنهن يعرُضن أنفسهن على شخص غريب مرة واحدة في حياتهن.

تعكس المصادر اليونانية العلاقة المتناقضة التي تربط اليونانيين بالشرق. الشرق يجذبهم ويصدهم في آن. لقد أعطى الشرق، عن طريق مدن آسيا الصغرى، اليونان فلاسفتها وعلماء رياضياتها الأوائل … جميعهم يعترفون بأنهم مَدينون للعلماء البابليين. فالمدينة التي كانت بابل فحسب، بتاريخها الألفي وتأثيرها الثقافي والفكري، كانت محط أنظارهم وقوة جاذبة لهم.

لكن الشرق يمثل، منذ الصراعات بين الإغريق والإمبراطورية الفارسية في القرن الخامس قبل الميلاد، الهزيمة العسكرية. هذا بالضبط ما حصل عندما  تم غزو بابل من قبل الفرس في العام 539. تلك النظرة السلبية التي كانت لدى الإغريق عن الفرس ستؤثر على صورة المدينة. فبدأت منذ ذلك الوقت بالنسبة لهيرودوتس، قراءة سلبية للسياسة في بابل، سترتدي أهمية بالغة على نطاق واسع. اشتهرت بابل بأن حُكمها متعذّر بسبب حجمها، وجعلوا من ملوكها شخصيات مخنثة وفاسقة.

ليستوار: كانت بابل بالنسبة لليونانيين أولاً وقبل كل شيء مدينة شاسعة الأطراف؟

ثمة عنصر ثابت في المصادر اليونانية يتمثل في الإنبهار والقلق الناجمين عن وجود مدن عملاقة في بلاد ما بين النهرين، وهي ظاهرة لم تعرفها الحضارة اليونانية. كان يُنظر إلى تلك “المدن الكبرى – في مقدمها بابل – على أنها غير قابلة للحكم.

في القرن السادس كتب الشاعر فوسيليدِس: “مدينة صغيرة ولكنها واقعة على نتوء عالٍ ومنظمة هي أقوى من نينوى الحمقاء”. أما هيرودوتس فيرى أن بابل كبيرة جدًا بحيث يمكن للعدو أن يدخلها من أحد أبوابها دون أن يعرف سكان المركز ذلك. بعده كتب أرسطو أنه بعد ثلاثة أيام من غزو الإسكندر لها، ظلّ أحد أحياء بابل بكلّيته جاهلاً للخبر.

لا يتعلق الأمر بعدد السكان بقدر ما يتعلق بحجم المدينة. يتحدث هيرودوتس عن أسوار يبلغ طولها 86 كم. وكليتاركُس عن سياج يزيد طوله عن 65 كم. أمّا كتيسياس فذكر أن سميراميس  وظفت مليوني رجل لبناء المدينة، المحاطة بأسوار طولها 64 كم. وارتفاعها 90 متراً ! تلك الكثافة الجغرافية المقلقة شكلت نقطة انطلاق تقوم عليها نظرية سادت في السياسة مفادها أن المدن الكبرى في الشرق يتعذر حكمها.

ومع ذلك، عندما عاود البطالمة على سواحل إفريقيا، تأسيس الإسكندرية التي دشّنها الإسكندر، جعلوها مدينة كبرى. في زمن ذي القرنين وما بعده، لعبت المدينة الشرقية العظيمة، التي رمزت إلى بابل، دورًا إيجابيًا يحتذى به يجب تقليده وإتقانه.

ليستوار: من أين تأتي صورة أولئك الملوك المخنثين وتلك الملكات الفاسقات؟

ترتبط الأدبيات المعادية للشرق بذكرى الصراعات ضد الفرس وسيطرتهم بعد انهيار سلطة أثينا. وقد تم نسج خيوطها عبر العصور القديمة إنطلاقًا من أدب وفير،  ضاع إلى حد كبير، أعطى صورًا  شديدة التنوّع والغنى عن ملوك شرقيين، أشوريين وبابليين.

إنه كتاب أثينايوس في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، الذي ذهب إلى أبعد الحدود. لقد تناول سلسلة كاملة من النصوص ليرسم الصورة النموذجية للملك الشرقي المخنث: يعيش منعزلاً في قصره، محاطًا بحريمه ومحظياته وخصيانه؛ إنه سمين وخامل، ممروط، مزيَّن الوجه، يعيش حياة صاخبة. بفضل كتاب أثينايوس، نفهم أن الطابع المخنث لملوك الشرق يعني في الواقع إنتفاء الإختلاف بين الأجناس، أي نفي المجتمع والثقافة. إنها الغَيرية المطلقة، عكس العقلانية اليونانية.

نحن هنا أمام صورة متناقضة. بابل هي العاصمة العالمية لثقافة العصور القديمة – وهذا لا يمكن لأي يوناني أن يتجاهله – وفي الوقت نفسه عاصمة إنكار الثقافة ورفضها. فيجري وضعها في أقاصي الأرض جغرافيا ونعتها بالسلبية. ولا بد أن صورة الفارسي قد لعبت دورًا كبيرا في إنشاء الصور النمطية الشرقية للملك المستبد الفاسق والمرأة الفاسدة.

أصبحت سميراميس نموذجًا للمرأة الشرقية التي استطاعت الوصول إلى إدارة الشؤون العامة. هي ملكة بنّاءة وفاتحة يُنسب إليها تأسيس بابل وغزو الهند وإثيوبيا. لكنها توصف باعتبارها جشعة وفاسقة. شخصيتها مستوحاة من الملكة الأشورية شمُورامات التي قال علماء الأثريات الأشورية قديمًا إنها حكمت بعد وفاة زوجها. ويبدو في الواقع أنها لم تحكم أبدًا، هذا لا يعني أنها لم تقم بدور نشط. لكن ما صوّرها به هيرودوتس واليونانيون لا علاقة له بالشخصية التاريخية.

ثمة شخصية أنثوية أخرى تعود أحيانًا إلى الواجهة: نيتُقريس. إنه اختلاق خالص. هي في الواقع صِنْو سميراميس؛ قد يكون اسمها تحريفًا بعيدًا جدًا لنبونيد (555-539 ق.م.)، وهو اسم آخر ملوك بابل، الذي أسره كورش عندما دخل الفرس بابل. تلك الشخصية مثيرة للاهتمام، حيث أن هناك تقليدان تأريخيان يتعلقان به: أحدهما يتغنى بمزاياه، والآخر يلومه ويعتبره ملكا سيّئا.

ربما توجد في تلك المصادر لبلاد الرافدين، المحفوظة جزئيًا، والمفقودة جزئيًا، مصدر إلهام لتأسيس صور أسطورية. عرف الإغريق هذا النوع من الأدب. كانت (المصادر) تتغذى بالثقافة البابلية، وكذلك كتّاب التوراة.

ليستوار: أين تقع بابل في التوراة ؟

بابل هي أولا وقبل كل شيء مدينة المنفى للشعب اليهودي. جاء في التوراة أن نبوخذ نصر أمر بنفي سكان مملكة يهوذا وملكهم إلى بابل. وقد لعنها الأنبياء أسوة بنينوى، عاصمة الإمبراطورية الأشورية، التي هي أيضا مدينة عالمية ووثنية.

رفض اليهود النموذج السياسي البابلي القمعي تجاههم، وكذلك الشِّرك (مذهب تعدد الآلهة)، غير أنهم كانوا يعلمون أنهم يواجهون ثقافة عظيمة تستحق الإحترام والإعجاب، ويستخدمونها في كتاباتهم من خلال الجدل، وذلك لتحديد وتأكيد هويتهم. فكان الاتصال بالثقافة البابلية بمثابة خميرة ومرجع لكتابة النص التوراتي.

إذا كان لم يأت على ذكر ذلك، فقد تطرّق، خاصة في بداية سفر التكوين مع قصة الطوفان، إلى جانب كبير من الأساطير البابلية. وهذا عن طريق تحويره بعض الشيء، بإعطائه دفعا أكثر توحدية. من الواضح أن النخب اليهودية تأثرت بتلك الثقافة وتغذ بها. وقد سبق التواصل والتأثيرات فترة النفي (بين 597 و 539 قبل الميلاد).

ليستوار: بابل هي أيضا بابل في سفر التكوين. ما المغزى الذي يمكن أن يُعطى لتاريخ برج بابل؟

القصة، وهي غير عادية، تحتل حيزا صغيرا جدًا في النص التوراتي. نرى فيه البشرية وقد ارتكبت خطأ ببناء مدينة وبرج “رأسه في السماء” والرب وقد عاقبهم على هذا الخطأ بأن بلبل لسانهم وبددهم على وجه كل الارض. يهدف النص أساسًا إلى إظهار أن ملكًا مستبدًا، ملكًا سيئًا، في اللحظة التي لا يحكم بانسجام مع الآلهة، لا يمكن إلاّ أن ينهزم. إنها قصة موجزة للغاية ورد ت في سفر التكوين بعد الطوفان وتعداد خلف نوح وأبنائه. فجاءت قصة برج بابل تقطع هذا التعداد، الذي استؤنف بعد ذلك، لكن مع اختلاف واحد: لم يعد يجري الحديث عن نسل سام الذي سيولد منه إبراهيم.

ثم كان برج بابل، زقورة معبد الإله مردوك، التي كانت أكثر مجدًا وأشد روعة من جميع المباني الأخرى وربما أطولها. من الواضح أن هناك أدبيات وجدول أساطير حول هذا البرج، جسدت أكثر من غيرها وحدة الكون.

هناك لوح طيني محفوظ اليوم في متحف اللوفر يصف ذلك بتفاصيل لا حصر لها ويظهر بأنه (برج بابل) كان هيكل الكون. ويمكن مقارنته من حيث بِنيته، بالفُلْك الذي عبر الطوفان، الموصوف في ملحمة گلگامش. البنية نفسها، المقسمة إلى سبعة طوابق – الطابق السفلي وربما الطوابق الأخرى أيضًا مقسّمة بدورها إلى تسعة أجزاء – تعكس رؤية سكان بلاد الرافدين للكون. البرج هو البناء، مقياس التناسب المعماري الذي يتيح الحافظة على وحدة السماء والأرض، الكون إذن.

ليستوار: إذن هذه قصة منقولة عن قائمة الأساطير البابلية؟

نجد في الأدب البابلي، وخاصة في النصوص التنجيمية، نقدًا للقوة الجائرة. تُظهر تلك القصص ملكا مؤسسًا يغرق في الإفراط ويعمل على تحويل البرج لمصلحته الخاصة وليس باتجاه الحفاظ على وحدة الكون، أي على علاقة عادلة بين الآلهة والبشر. وقد كان ذلك مصدر إلهام لكاتب النص التوراتي . إنه رجل مثقف للغاية ولديه معرفة جيدة جدًا بالثقافة البابلية، لكنه يقلبها ضد بابل للقول أن يهوه أقوى من مردوخ.

لم تكن الإقتباسات التوراتية مباشِرة أبدًا، فهي تتناول جوانب متنوعة من ثقافات مختلفة. هناك طائفة من الأساطير تعود إلى جماعات سكانية مختلفة وتتشابه بشكل مدهش. وتمثل بابل الوجه الأبرز لثقافات الشرق الأدنى القديم.

ليستوار: وماذا عن بلبلة الألسنة؟ ما معنى هذه القصة؟

إن ما يربط هذه القصة أيضًا ببابل هو تقليد طابع المدينة العالمي. ذلك أن بابل، عاصمة العالم، مأهولة بالناس من جميع أنحاء العالم، ويتكلمون بكل اللغات التي يمكن تصوّرها. تلك الشعوب المتنوعة تقبل نفس القانون الذي يعبرعنه الملك طالما أن الملك قادرعلى تنفيذه. وعندما يغيب الملك ، يرجع كل واحد إلى لغته، أي إلى قانونه الخاص. فلا يعود أحد يفهم الآخر، أو يتعاطى معه، فيتخاصم  الجميع وتنهار البلاد.

منذ العصور القديمة حظي موضوع برج بابل وبلبلة الألسنة هذا باهتمام كبير. فمن بين جميع الصور المعروفة عن بلاد ما بين النهرين، لا تزال تلك ماثلة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. ولقد أصبح المشهد البابلي في التقليد، عبر مئات وآلاف السنين، مرجعًا، لأنه قصة عن عدم قدرة الناس على التفاهم، والتواصل فيما بينهم، والإتفاق. إنه موضوع يتمتع بقوة غير عادية.

ليستوار: كيف تم نقل هذا الموضوع؟

لقد اهتم به آباء الكنيسة، ولا سيما القديس أوغسطينوس. ثم أطلّ في القرن الحادي عشر في الفن الروماني. في ذلك العصر أيضًا، عاد إلى الظهور في الأدب ، مع موضوع تنوع اللغات.

ليستوار: كيف يصوَّر برج بابل في المنمنمات واللوحات؟

في العصور الوسطى، بدا وكأنه برج من القرون الوسطى مرتفع إلى حد ما، محاط بسور مسنّن المدينة. لدي انطباع أن هذا التصميم مستوحى من رسم خرائط ذلك العصر. في الواقع أن المدينة قد ظهرت على خرائط العصور الوسطى بسور مسنّن يضم برجًا. غالبًا ما نرى تنينًا يخرج منه، مما يعني أن صورًا إضافية قد تطعم بها موضوع البرج، في زمن لا نعرفه.

في القرن السادس عشر، بعد إعادة اكتشاف هيرودوتس، وفن العصور القديمة بشكل أعم، أصبح الكوليزيوم النموذج المرجعي لمشهد البرج. بطبيعة الحال الكوليزيوم هو روما. وفجأة إندمجت روما وبابل في لعن الشَّرك (مذهب تعدد الآلهة) والمجون والخلاعة. فكلاهما يجسدان إنكار الإنسانية. منذ آباء الكنيسة، كانت روما “بابل الغرب العظيمة، الوحش الذي يلتهم أولادها، الفسق، الزانية الكبرى. وعرف التمثّل (تكيّف سلوك الفرد وفقا لحياة الجماعة عن طريق اقتباس المواقف والعادات الشائعة) قدَرًا جديد مع الإصلاح: في ذلك الوقت لم تعد روما العصور القديمة هي التي أُسقطت على الأفق عينه، بل روما الباباوات.

ليستوار: في القرن التاسع عشر، أعطى الاستشراق زخما قويا للصور والأساطير المتعلقة ببابل .. إذن صورة بابل مجمدة إلى الأبد؟

أظهر القرن الثامن عشر، الذي تعززت فيه عملية نقد الكتاب المقدس والكنيسة والسلطة، الصورة السلبية للشرق القديم وبابل. فضلاً عن ذلك أعطى عصر التنوير، الذي حمل في طياته رومانسية الأطلال، دفعًا قويا للحفريات الأثرية.

في العام 1842، بدأت الحفريات في بلاد الرافدين. في الوقت نفسه، إستمرت في العالم الفني والفكري والأدبي أسطورة بابل. فقد بذل الفنانون والكتاب جهودًا لإبقائها على قيد الحياة. فولتير كتب سميراميس   Sémiramis؛ ويليام بليك أشار، في وليمة بالتازار  Beltazzar’s Fest))، إلى استبداد نبوخذ نصر. أما اللورد بايرون فصوّر بابل متفسخة في إنحطاط سنحاريب وفي رؤيا بالتزار. ثم في العام  1842 أيضًا مع ابتكار نابوكو (نبوخذ نصر) للمؤلف الموسيقي فيردي على مسرح لا سكالا في ميلانو.

لم يكن تأثير الحفريات وأعمال العلماء على الجمهور العريض فوريًا. فقد استمر في نهاية القرن التاسع عشر تداول القصص القديمة التي تناقلها الإغريق والرومان والتوراة. لكن هناك صور أخرى بدأت بالظهور. وتتضاعف تلك الصور المتنوعة كلما جرى عرض ألواح ومواد وتماثيل وبقايا معمارية في المتاحف الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة. يعرف الأدباء والجمهور المثقف، كليًا أو جزئيًا، الاكتشافات التي توصل إليها علماء الآثار والمتخصصون. يضم كتاب مدرسي للصف السادس من ثمانينات القرن التاسع عشر، 200 صفحة عن بلاد ما بين النهرين ! إذن كان الطالب في ذلك الوقت مطّلعًا على الموضوع مثل العلماء الذين كانوا يشرفون على الحفريات. تصوّروا أن بلاد ما بين النهرين لم تعد مدرجة في مناهج الثانويات !

تحتفظ صورة برج بابل بكل روعتها. غير أنها لم تعد سلبية حصرًا. حوالي العام 1900، أردنا بناء نظيره في Bois de Boulogne (في الدائرة السادسة عشرة في باريس) ! كانت وظيفة البرج – الذي هو في الواقع نوع من مجمع هائل يضم متاجر كبيرة ومطاعم ودور السينما وما إلى ذلك – في نظر المساهمين والمهندس المعماري، التواصل الاجتماعي وإضفاء الطابع الإنساني على مدينة باريس، التي كانت بالنسبة إليهم ضربًا من ” بابل “، “غرفة مهملات” عالميا، مكوّنا من أشخاص لا يفهمون بعضهم البعض، تتخللها نضالات عمالية. كان من الضروري بث حياة جديدة في المدينة، وبناء ذلك الفضاء المشوّه والمتوحش الذي كانت عليه العاصمة … هناك تنعكس الصورة.

إن الذي تغير بشكل خاص، مع الاكتشافات الأثرية، هو أن بابل بالنسبة لليونانيين واللاتين القدماء، قد جسدت نفي الحضارة ووجدت نفسها على هامش العالم، كون موقع الحضارة  في المركز. في القرن التاسع عشر، تم التخلي عن هذا التمثيل: لم تعد بابل على هامش العالم، إنها في أصل العالم الحديث، في منابع الحضارة، في بدئها. أما غرابتها واختلافها والسمات السلبية التي يمكن العثور عليها عندها، فيتم حُّلها في الواقع في حقيقة أنها موجودة في الأساس، وأن الأساس أقل كمالًا من النتيجة. إنه زمن داروين، دعونا لا ننسى ذلك.

ليستوار: لا يقل اسم كلكامش اليوم شهرة عن اسم سميراميس. تراجعت الصورة النمطية غير المبنية على أساس لصالح بطل حقيقي من الأساطير البابلية. متى يدخل الثقافة الغربية؟

گلگامش هي أحدى الروائع التي اكتُشفت ثانية في القرن التاسع عشر. إختفى الاسم تقريبا. وتم فك رموز المسمارية وتعريفها كخط  وأمكن قراءته وتحديد اللغات التي اعتمد في كتابتها، وخاصة البابلية. وهكذا جرى إحياء كسرات أو أجزاء من نص أعيد لزقها تدريجيًا على ألواح – لا تزال هناك نواقص حتى اليوم – واكتشاف ملحمة گلگامش الكبرى.

في ذلك الوقت كان يقرأ اسمها “إزدوبار” (الكتابة المسمارية هي واحدة من أصعب ما اخترعه البشر على الإطلاق). لذا كان يجري الحديث عن “مغامرات إزدوبار”.

وسرعان ما فتحت بعض الترجمات للجميع. تناولها فن الأدب، والموسيقى أيضًا. إنه شخصية ذات بُعد عالمي، يخاطبه من ساعته، بغض النظر عن الزمان أو المكان. إنه ملك قوي جدًا، لكنه في الوقت نفسه حكيم يواجه تجربة عالمية: الموت. هو لا يحاول فقط نيل الحياة الأبدية، بل يطلب الشباب الأبدي!

بدأ الاهتمام بتقديم صور إيجابية عن بابل. في القرن العشرين، مع المغامرة الفاشية والنازية، طفت الأفكار القديمة للطاغية من جديد، ولكن صورة بابل، بشكل عام، قد تمايزت منذ الحفريات، بطرق مختلفة.

ليستوار: لماذا لا يزال لدينا انطباع بأن بابل وبلاد ما بين النهرين محفوظة إلى حد ما للمطلعين على السر؟

أولاً، وخلافا لمصر، لا تتكشف بابل وبلاد ما بين النهرين عن آثار مذهلة. ثم إن النصوص ظلت مجهولة إلى حد كبير لعرضها بكامل روعتها على جمهرة الناس. أخيرًا، ما زلنا نعرف القليل جدًا في الواقع عن بلاد ما بين النهرين لنكون قادرين على تقديم رؤية واضحة لعامة الناس. كل ذلك، إضافة إلى صعوبات الزمن، والنهب الممنهج للمواقع والمتاحف الأثرية وإغلاق الحدود واستحالة الذهاب إلى العمل في بعض البلدان الأساسية – لا سيما العراق – يجعل من الصعوبة بمكان اتساع عمليات التنقيب.

بحثا عن الحدائق المعلقة

لا يوجد سجل أثري لحدائق بابل الشهيرة

من بين عجائب الدنيا السبع، يذكر مؤرخو الفترة الهلنية حدائق بابل المعلقة. (تم تحديد الفترة الهلِّنية من قبل مؤرخي القرن التاسع عشر. مصطلح “الهلنية” استخدمه لأول مرة المؤرخ، الألماني يوهان غوستاف دْرويزِن في كتابه ” تاريخ الهلنية”  Geschichte des Hellenismus (1836 و1843) إنطلاقًا من معيار لغوي وثقافي، ألا وهو النمو المذهل للمناطق التي تتكلم اليونانية، إذن عن ظاهرة انتشار الهلينية.) عظّم شأنها ديودورس الصَيقلي في القرن الأول ق. م. وفلافيوس يوزيفوس واسطرابون في القرن الأول بعد الميلاد. تستند جميعها إلى مصادر أكثر قِدمًا: فلافيوس يوزيفوس استوحى من كتابات بيروسس، وهو أحد كهنة مردوخ عاش في بابل حوالي 300 ق. م. ينسب بيروسُس تلك الحدائق إلى نبوخذ نصر، الذي ربما أراد أن يذكّر زوجته الميدية الأصل (ميديا منطقة في شمال غربي إيران… إستولى عليها الإسكندر 330 ق.م. …) بجبال موطنها الأصلي المشجرة. وكونها أُنشئت على مرتفع، تم تركيب آلات بارعة لإيصال المياه المخصصة لريّها.

الحدائق المعلقة حاضرة في خيالنا. كما إن رسوماتها في الفن الغربي عديدة ومتنوعة وخيالية: تغطي أسطح المباني متعددة الطوابق أو تزين قمة برج.

في القرن التاسع عشر، اقترح هرمزد رسّام (1826- 16 أيلول 1910، عالم آثار  ودبلوماسي بريطاني عراقي آشوري المولد والنشأة. كان رحالة قام بالعديد من الاكتشافات الهامة، منها الألواح اللبنية التي ضمت ملحمة گلگامش، أقدم عمل أدبي في العالم. أول عالم آثار آشوري ومشرقي. أبوه أنطون رسّام، أسقف كنيسة الشرق الآشورية في المدينة. أمّه تريزا إسحق حلبي (من حلب). كان لأخيه كريستيان، الذي يعد أول شرقي درس في جامعة اكسفورد تأثير حاسم على حياته). إقترح إذن إقامة تلك الحدائق في شمال المدينة باتجاه القصر الخارجي. خلال الحفريات الألمانية في بابل، عرض روبرت كولدوي بدلاً من ذلك إنشاء مبنى مقبَّب للقصر الجنوبي الذي كان من شأنه أن يحمل سقفًا مدرَّجًا. تم طُرحت فرضيات أخرى: إنشاء تلك الحدائق على منحدرات بالقرب من نهر الفرات شمال القصر … ومع ذلك، تعذّر الإتفاق على موقع لا جدال فيه. لكن ما يثير أشد القلق هو أن الوثائق المسمارية المكتشفة في بابل لم تشر أبدًا إلى مثل تلك الحدائق. أمّا نقوش نبوخذنصر  فتمتدح أعماله في بناء أسوار المدينة وبواباتها وقصورها، لكنها تلتزم الصمت إزاء اهتماماته البستانية.

قبل سنوات تناولت العالمة بالأثريات الأشورية، الإنكليزية ستيفاني دالي عناصر الملف: لا يوجد مصدر بابلي جديد يذكر الحدائق؛ المؤرخون اليونانيون في العصر الكلاسيكي، ولا سيما هيرودوتس، لم يأتوا على ذِكرها؛ حيث أن جميع المراجع تعود إلى الفترة الهلنية أو الرومانية. والحال أن المؤرخين اليونانيون غالبا ما خلطوا بين نينوى وبابل، عاصمتي آخر إمبراطوريتين شرقيتين عظيمتين (الآشورية والبابلية) قبل الغزو الفارسي. أمّا الملوك الآشوريون في القرن السابع قبل الميلاد فقد أبدوا اهتماما واضحا بالحدائق: يذكر سنحاريب في نقوشه تلك التي أمر بإعدادها  ويصف آلة توفر المياه اللازمة لريّها؛ ويُظهر نقش ضئيل البروز من قصر أشوربانيبال تلًا مغطى بالأشجار والشجيرات، ومزوّدًا بالمياه بواسطة قناة ونظام من القنوات. وتخلص ستيفاني دالي إلى أن الحدائق المعلقة كانت موجودة … لكن في نينوى وليس في بابل.

ويستمر النقاش منذ ذلك الحين. ومع ذلك لا يزال بعض الباحثين يفضلون تحديد موقع الحدائق في بابل ويقترحون مواقع جديدة. ويولي آخرون اهتمامًا أكبر بمظهرها: مشاتل على أرض مرتفعة، أو رياض مخصصة للأزهار تحاكي نقوش السجاد…

بريجيت ليون، محاضِرة في جامعة السوربون

عن ucip_Admin