كتبت الصحافية ريتا الجمال على موقع العربي الجديد بتاريخ 16 كانون الاول 2021
في وقتٍ يشهد فيه لبنان انهياراً تاريخياً لعملته الوطنية، مصحوباً بارتفاع معدلات الفقر والجوع والبطالة، تركّز السلطة السياسية، ومن خلفها الأمنية والقضائية، جهودها على توقيف وملاحقة ورصد صحافيين وناشطين وكوميديين وحقوقيين بجملة تهمٍ على رأسها “التحقير”.
أحدث هذه الحالات ما تعرّض له الناشط توفيق بريدي المعرف بـ Toufiluk، يوم الاثنين الماضي، فور وصوله من لندن إلى مطار بيروت، وسحب جواز السفر منه لأسباب “مجهولة” في الإفادة التي تلقاها، بينما تضاربت المعلومات حول “الإساءة لمقام رئاسة الجمهورية” أو “تحقيره جواز السفر اللبناني”، وهي رواية تناقلها ناشطون مؤيدون للرئيس ميشال عون و”التيار الوطني الحر” عبر موقعه الإلكتروني.
مثل بريدي أمس أمام شعبة معلومات الأمن العام للتحقيق، عندما قيل له إنّ تهمته تحقير جواز السفر اللبناني والمس برئاسة الجمهورية كون جواز السفر صادر باسمها. وفي اتصال مع “العربي الجديد”، قبل التحقيق، استبعد بريدي أن يكون السبب “تحقيره جواز السفر اللبناني” باعتبار أن الفيديو الذي نشره عبر صفحته على “إنستغرام” يعود إلى أشهر ماضية، وسبق أن جاء إلى لبنان في يونيو/حزيران وغادر في أواخر يوليو/تموز، ولم يجر توقيفه أو استجوابه أو اتخاذ أي اجراء بحقه، كما أنه عاد وحذف المقطع. ويقول بريدي “أحد العناصر في المطار قال لي إن سبب استدعائه الإساءة لمقام رئاسة الجمهورية، وأنا قبل حوالي الأسبوعين ظهرت في بث مباشر على صفحتي وتناولت رئيس الجمهورية ووضع البلد ككلّ”، لافتاً إلى أن “كل ما نقوله لا يعبّر إلا عن الواقع، من تحليق سعر صرف الدولار إلى أزمة الكهرباء والانترنت وغلاء المحروقات والانهيار الشامل بينما هم يريدون إسكاتنا خصوصاً الناشطين الذين لديهم عدد كبير من المتابعين ويمثلون أملاً صغيراً للمواطنين لإيصال صوتهم ومعاناتهم”. ويضيف “أنا ناشط لدي نصف مليون متابع غالبيتهم من دول عربية، كيف أشجعهم على السفر إلى لبنان؟ هل بالكذب عليهم؟ البلد انهار على المستويات كافة وها نحن نتحول أخيراً إلى دولة بوليسية”. تسلّم بريدي جواز سفره أمس وأخلي سبيله.
ورصد مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية “سكايز”، خلال هذا العام أكثر من 71 انتهاكاً لحريّة التعبير في لبنان كما حريّة الصحافة. وكان بينها عدداً لافتاً من الانتهاكات في الأشهر الأخيرة، ضد صحافيين وكوميديين أو ناشطين ساخرين. ففي ديسمبر/كانون الأول الحالي، قدّم مواطن يدعى جان بول سماحة عبر وكيلته المحامية أوديت نجيم، إخباراً أمام النيابة العامة التمييزية بحق الناشطة الاجتماعية أماني دنهش، المعروفة بلقب “أمونز”، بتهمة “تحقير رئيس الجمهورية”، داعياً إلى “إيقاف ثورة الأنثى الفاجرة”. و”أمونز” هي ناشطة ساخرة تنشر عبر “إنستغرام”، وكانت قد تعرّضت لحملات شتم ومضايقات على مواقع التواصل الاجتماعي منذ انتفاضة 17 أكتوبر 2019، من قِبل مناصري “التيار الوطني الحر” مما أدى إلى طردها من مقرّ عملها في دبي. وفي 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، استدعت المحكمة العسكرية الممثلة الكوميدية شادن فقيه للمثول أمامها بتاريخ 23 حزيران/يونيو 2022 بتهمة “المسّ بسمعة المديرية العامة لقوى الأمن والتحقير”، على خلفية فيديو نشرته على حسابها على “إنستغرام”، كانت قد استدعيت بسببه للتحقيق أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية خلال هذا العام.
في السياق، يقول المستشار القانوني لدى “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” المحامي طارق الحجار لـ”العربي الجديد” إن “كل ما يحصل يأتي في سياق جرّنا إلى الدولة البوليسية، حتى أن المحتوى الساخر الصادر عن كوميديين أصبح يعتبر مسّاً بالأمن القومي، والمنظومة الحاكمة بدل أن تبذل جهودها حيث يلزم لمعالجة تداعيات الانهيار الاقتصادي والنقدي والمالي هي تفرغ طاقاتها لتغطية عجزها وفشلها عبر كمّ الأفواه وقمع الأصوات المعارضة التي لا تملك إلّا الكلمة لتعبّر من خلالها”. ويشير الحجار إلى أن “كلمة باتت تهزّ الحكام والسياسيين، بينما لم يتحركوا للتصرّف بمواد نيترات الأمونيوم طيلة سنين، ولم يهزّهم انفجار بحجم الذي حصل في 4 أغسطس/آب 2020، ولم تمسّ مقاماتهم بفعل الانهيار الكارثي بتداعياته على الناس. للأسف تحولنا إلى دولة بوليسية بهدف حماية المقامات بدل حماية الناس وحقوقهم وحرية الرأي والتعبير”.
وباتت ملاحقة الأجهزة الأمنية للصحافيين تأخذ منحى جديداً في لبنان بعدما كانت تتركّز خلال الأعوام الماضية استدعاءات للتحقيق أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة، فبات يبرز اسم الأمن العام اللبناني والمحكمة العسكرية بين ملاحقي الصحافيين والناشطين. ففي 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، أفرج الأمن العام اللبناني عن الصحافية الأميركية ندى الحمصي التي أوقفت في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، فيما دهمت العناصر الأمنية منزلها من دون إذن قضائي بالتفتيش أو أمر بالاعتقال، واستمر احتجازها تعسفياً لـ23 يوماً بعدما رفض الأمن العام إطلاق سراحها بناء على قرار النيابة العامة بالإفراج عنها في 25 نوفمبر/تشرين الثاني، بحسب ما كشفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها.
وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني، أصدرت المحكمة العسكرية حكماً غيابياً بحقّ الصحافي رضوان مرتضى، يقضي بسجنه مدة سنة وشهر “بجرم تحقير المؤسسة العسكرية” على خلفية ما قاله في إحدى إطلالاته التلفزيونيّة على قناة “الجديد” المحلية عن مسؤولية الجيش اللبناني عن انفجار مرفأ بيروت.
وكذلك، في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اعتقل الأمن العام اللبناني المصوّر السوري محمد اليونس خلال مغادرته مطار بيروت إلى فرنسا ثلاثة أيام بسبب تشابه أسماء. وسبق ذلك ما أعلنت عنه وكالة “رويترز”، من أنّ الأمن العام اللبناني رحّل كبير مراسليها في الأردن وسورية سليمان الخالدي إلى الأردن بتاريخ 3 آب/أغسطس الماضي، بعد استجوابه لدى وصوله إلى مطار بيروت في مهمة صحافية، كما طلبوا منه تسليم حاسوبه وهاتفه المحمول، لكنّه رفض ذلك.
تزامن كلّ ذلك مع حملات إلكترونيّة ضدّ الصحافيين تشنّها بالدرجة الأولى جيوش إلكترونيّة تابعة للأحزاب والسلطة السياسيّة، تتعمّد التنمر بهدف الإسكات، مع تعرّض الصحافيين والمصوّرين للضرب خلال تغطياتهم الميدانيّة، ومنها ما تعرَض له مراسلون في قنوات لبنانية خلال تغطيتهم للاشتباكات في منطقة الطيونة في 14 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تعتبر مؤسسة ورئيسة منظمة إعلام للسلام “ماب”، فانيسا باسيل، لـ”العربي الجديد”، أنّ “التوقيفات والاستدعاءات لم تعد تستثني أحداً: ناشطين، حقوقيين، صحافيين، كوميديين، مواطنين… الكل بات غير محميّ، ولم يعد له حق التعبير عن رأيه”. وتشير باسيل إلى أن “مسلسل القمع مستمرّ خصوصاً منذ عام 2019 وحتى اليوم، والحالات إلى ازدياد وهامش الحرية يضيق أكثر فأكثر، والوضع أصبح مقلقاً وخطيراً جداً، ونحن نستنكره ونرفع الصوت بوجهه، فهو يؤشر إلى ممارسات الدولة البوليسية لا الديمقراطية التي نتغنّى بها، مع ضرورة الإشارة إلى أن ما يحصل يشكل انتهاكاً أولاً لدستورنا الذي يكفل حرية الرأي والتعبير، وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي يحترمها ونحن ملتزمون به”. وتضيف باسيل “قد لا أوافق شخصياً الشتائم أو العبارات التي تستخدم في التعبير ولكن لا يجوز أبداً توقيف شخص لتأديبه أو تلقينه درساً بعدم المسّ بشخصية معينة أو مرجعية واستدعائه بناءً على ما كتبه أو أسلوب تعبير أو لمسّه بالمقامات والمرجعيات”.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه