كتب الاب الدكتور باسم الراعي في صحيفة النهار بتاريخ 11 كانون الثاني 2022
يفرض علينا الواقع السياسيّ المعقّد إشكاليّةً جديدةً هي إشكاليّة الهوّيّة اللبنانيّة، بعدما كانت في الماضي تدور حول القوميّة اللبنانيّة في زمن تهافت القوميّات. صحيحٌ أنّ إشكاليّة الهوّيّة مطروحةٌ اليوم في أماكن كثيرة في العالم، وربّما ستكون سببًا لنزاعات حتى في الدول المتقدّمة. لكنّ هذه الإشكاليّة تحمل صبغةً لبنانيّةً خاصّةً تؤجّجهها الأزمة الراهنة التي بات البعض يوصّفها بأنّها أزمة هوّيّة، بسبب اتّجاهات ورهانات توحي كما لو أنّ لبنان لا هوّيّة خاصة به، وبالتالي يجب أن يُلحق في هذا المحور أو ذاك، أو في هذه الأيديولوجيا أو تلك، حتى يفوز بهوّيّة فاقِدِها.
إذا نظرنا إلى الماضي القريب، لوجدنا أنّ إشكاليّة الهوّيّة قد طُرِحَت هي أيضًا وبشدّة. وربّما كانت واحدةً من الدوافع الحقيقيّة للحرب، لإخراج لبنان من الإنعزال الذي فرضته عليه صيغة 1943: إن “لبنان ذو وجه عربي”. دفع الهويّاتيّون يومها باتجاه حسم موضوع الهوّيّة في صيغة أكثر وضوحًا في نظرهم، أُدخلت في مقدّمة الدستور: “لبنان عربيّ الهوّيّة والانتماء”. لكن أصحاب النزعة الهوّيّاتيّة بالمعنى الذي صاغوا فيه الحلّ، لم يتنبّهوا إلى معضلةٍ أساسيّةٍ في الصيغة: أنّ هوّيّة لبنان حُدِّدت بنسبتها إلى آخر أي “عربيّ الهوّيّة والانتماء”. كان الأجدى منطقيًا أن يقال “هوّيّة لبنان عربيّة”. والفارق بين الصيغتين كبير، ففي الأولى أُلْحِق لبنان بالعروبة؛ بينما في الثانية لبنان يختار العروبة اختيارًا. الصيغة الأولى تحوي إقصاءً، أمّا الثانية فتساهم في الاندماج والدليل الصريح على هذا الفارق أنّنا إلى اليوم لم نتمكّن من تفسير الصيغة الدستوريّة لبنانيًّا. هي الظروف التي كانت تفرض التفسير. فُقد فُسّرَتْ عروبة لبنان مثلًا تحت الوصاية السوريّة بشكلٍ مغاير عن تفسيرها في العلاقة مع دول الخليج العربي. والتفسير يصير أصعب اليوم في الصراع الأيديولوجي بين عرب وفرس. فكيف التوفيق بين معاني عروبة من ينتمون إلى عروبة واحدة في النصّ الذي أنزل في لسانٍ عربيٍّ مبينٍ وبين اختلاف التوجّهات السياسيّة على أرض العروبة.
إذًا الصيغة الدستوريّة هي صيغةٌ سياسيّة لا صيغة حضاريّة، وبالتالي لا تستطيع أن تحدّد معنى هوّيّة لبنان ولا أن تفسّرها كما يجب، ولا تصلح حتى لتحديد عروبته. والدستور من جهته لم يتضمّن كلامًا مباشرًا على الهوّيّة إلّا في هذه الصيغة. فبغياب تفسير صريح لهذه الصيغة فهي أقرب إلى موقف هوّيّاتيّ أيديولجيّ. والتماهي الذي وضعته الصيغة بين العروبة ولبنان بشكلٍ جوهريٍّ أيوديولجيٍّ، حجب جوهر الهوّيّة اللبنانيّة. وهي بالتالي تشجّع الحكم على أيٍّ كان وبسهولةٍ، لمجرد تمايزه عن الإنسلاك في ما يقدّمه الظرف السياسيّ من تحديد العروبة. كلامي هنا، ليس كلامًا دفاعيًا ولا اتهامًا لأحد كما ليس تبرأةً لأحد، إنما هو كلام تأويليّ.
لذا أرى، أنّ هذه الصيغة فيها تراجع عن حصافة تحديد الهوّيّة اللبنانيّة كما جاء في بيان حكومة الاستقلال الأولى، سنة 1943، حيث نقرأ:
“إن لبنان مدعو كغيره من بلدان العالم إلى التعاون الدوليّ تعاونًا يزداد وثوقًا يومًا فيومًا. والعصر يأبى العزلة التامّة للدول كبيرها وصغيرها. ولبنان من أحوج الدول إلى هذا النوع من التعاون وموقعه الجغرافيّ ولغة قومه وثقافته وتاريخه وظروفه الاقتصاديّة تجعله يضع علاقاته بالدول العربيّة الشقيقة في طليعة اهتمامه. وستقبل الحكومة على إقامة هذه العلاقات على أسسٍ متينةٍ تكفل احترام الدول الغربيّة لاستقلال لبنان وسيادته التامّة وسلامة حدوده الحاضرة، فلبنان وطن ذو وجه عربيّ يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب.”
إذا تمعّنا في هذه التوليفة ووضعناها في السياق الذي وُضِعَت فيه، نجدها أبعد ما يكون عن زجّ لبنان من مغبّة التمترس الأيديولجيّ الهويّاتيّ. فهي تحدّد هوّيّته من منطلق خصوصيته، وواقعه ومصالحه، وترسم له حدود علاقاته. إنّنا نقف أمام الهوّيّة بالمعنى الحضاريّ أي تلك الذات التي تعي ذاتها وتفهم دورها وبالتالي ترسم أطر علاقاتها على أساس الذات والدور. وفي يقيني أنّه قد فات الهويّاتيّون أيديولوجيًّا أنّ كلمة وجه في العربيّة تفيد التجسيد الوجوديّ للهوّيّة كذاتٍ حيويّةٍ لا كجوهرٍ جامد، أي ذاتًا منفتحةً على الصيرورة التاريخيّة ورحابة التاريخ.
من هنا إن #الهوية اللبنانية ليست جوهرًا جامدًا من زمن القوميّات الـمُتَخَيّل، بل هي حقيقةٌ تشكّلت وتتشكّل في مسار تفاعل تاريخيّ على وَقع الصيرورة التاريخيّة التي جعلت من هذا التفاعل يستحيل وجهًا، أي رِبَاطًا تكوينيًا، كما يقول موريس ندونسل: “مع كل وجه يطل، هناك واقع يتجلّى.”
من المؤكد، إنّ هذا التحديد يخالف موقف من يستسيغون التحديدات الأيديولوجيّة التي تجعل من الهوّيّة، أقرب إلى جوهرٍ جامد تستمدّ الأشياء منه حقيقتها ووجودها وديمومتها. وبالتالي يكون سعيدًا، أبديًّا، سرمديًّا. هذا التحديد سقط مع سقوط القوميّات والأنظمة التوتاليتاريّة، والفاشية والتي لها طابع إثنيّ. تُحَدَّد الهوّيّة اليوم بالرِبَاط الذي يؤسّس لصيرورة تحقّقٍ تاريخيّ. ففي كلّ صيرورةٍ لا بدّ من السلبيّة (بتعبير سياسيّ الأزمات)، تكون فرصةً لتحقُّقٍ أمثل ودفعًا صوب تشذيب ما يعوق الرِبَاط عن أن يتبلور حقيقة. إذًا نحن أمام فلسفة الهوّيّة كصيرورةٍ وتحقّق بالمرور في الأزمات متى حلّت.
من هنا إنّ الهوّيّة اللبنانيّة هي في حقيقتها رِبَاط لا جوهر، كما عبّر عنها رجال الاستقلال، عام 1943.
عندما نقول رِبَاطًا، يعني أننا أمام “صلة-بين”، إذًا نحن أمام تعدّد في المعيّة. وهذه حقيقة الهوّيّة اللبنانيّة إنّها هوّيّة تعدّديّة. ذلك أنّ لبنان لم يصر وحدةً في توليفيّة هويّاتيّة اختزاليّة ولا بعمليّة صَهرٍ، كما كان يطمح إليها تيار القوميّة اللبنانيّة، وبعضٌ من الدستوريّين، كما فسر الأمر العلامة إدمون ربّاط في معرض شرحه لميثاق 1943، حيث اعتبر أنّ الميثاق وُجِدَ كوظيفةٍ في خدمة الهدف الدستوريّ، وبالتالي عليه أن يؤدّي إلى : “الاندماج الوطنيّ الذي يمتصّ الخصوصيّات الدينيّة والمناطقيّة، اندماجًا وطنيًّا يغذّيه، بدون كلل، تيّار الحسّ الوطنيّ المندفع بخاصّتَيه اللتين تقودانه الى إقامة الدولة-الأمة.” لبنان، تكوّنت هوّيّته عبر حقبات تاريخيّة. لذا لا يمكن حصر هذه الهوّيّة لا بحقبةٍ تاريخيّةٍ معيّنة، ولا في صياغةٍ دستوريّةٍ أو في مرحلة سياسيّةٍ معيّنةٍ ولا حتى بهوّيّة مؤسِّسةٍ أو مُتَخيلة. والأهمّ أنّه لا يمكن تشييدها على سرديّات مجتزأةٍ أو مفبركةٍ عقائديًا أو سياسيًّا. إن اكتشاف هذا الرِبَاط في حقيقة تكوّنه التاريخيّ، يكون بالعودة إلى تاريخ لبنان، كل لبنان، وكلّ ما في تاريخ لبنان. يعني ذلك، إنّ الرِبَاط يتألّف من الوحدة في التعدّد والتنوع والاختلاف. تقود هذه العودة في النهاية إلى الكشف عن حقيقة هذا المُتَّحَد الذي اسمه لبنان. لذا عبثًا نفتّش عن الرِبَاط في الدستور وحده أو في الميثاق وحده أو في الصيغة وحدها. إنّنا نستدلّ عليه من التقاطع بينهم، أي تلك الوحدة الجامعة التي تبدو في نظر الكثيرين أنّها ازدواجيّة. فهي تبدو كذلك لأنّنا لم نمنحها عنايةً كافيةً حتى نفهم معنى الرِبَاط الذي يتجلّى فيها. وهذا يعود في نظري إلى تغليب السياسة المصلحيّة كي لا أقول الانتهاز أو الابتزاز السياسيّ، بدل استساغة المَهمّة الحضاريّة. هذا لأنّنا شعب يفضّل الاستسهال المصلحيّ على الصبر على الأشياء.
في ضوء ما قيل، ترتسم معالم الهوّيّة اللبنانيّة على الشكل التالي:
-أولًا، الهوّيّة اللبنانيّة تعدّديّة لا أحاديّة ولا صَهْرِيّة، تكوّنت عبر مسار علائقيّ تاريخيّ تفاعل فيه الجماعيّ والفرديّ عن طريق تجاور جماعات سلميًّا أو تصادميًّا، وتعاونها نجاحًا أو إخفاقًا، وتبادل بين أفراد من مشارب مختلفة أو من خارج المشارب ومن اتجاهات فكريّة عديدة ومتناقضة، وتشارك متبدّل ونسبيّ، امتد من الإمارة، والمتصرفيّة، ولبنان الكبير، وميثاق 1943 حتى الطائف.
الهوّيّة اللبنانيّة هي حصيلة كلِّ هذا التاريخ من التفاعل.
-ثانيًا، أدّى هذا التفاعل، إلى ولادةِ ديناميّة، عرّفها اللبنانيّون بالعيش معًا. وعبّروا عنها بصيغ اعتراف أخذت شكلًا تشاركيًّا.
-ثالثًا، أدّى سوء فهم معنى هذا الرِبَاط تاريخيًّا وحضاريًّا إلى استسهال الميل إلى الهوّيّة الجوهريّة كما يتبيّن من المقدّمات التي يقوم عليها دستور 1926 وصيغة 1990، ممّا فوّت فرصة إبداع دستوريّ يلائم بين عمق هذا الرِبَاط ومعناه الحضاريّ والبنية الحقوقيّة للدولة. فأتت النتيجة:
أ- الانتقال من صيغة تعدّديّة كان أنموذج المتصرفيّة بداية تعبيرًا عنها، بهندسة من مترنيخ، إلى أخرى وحدويّة يعقوبيّة في بنية دستور 1926، المستمد من دستور الجمهوريّة الثالثة في فرنسا. فانتقلنا من أنموذج تعدّدي إلى أنموذج وحدوي صَهري. فأدى ذلك إلى دفع الجماعات إلى عيش عقدة خوف دائمة، وإلى التمسّك بهوّيتها الذاتيّة تمسكًا أعمى، وفي بعض الأحيان إلى الانكفاء والقوقعة على الذات. في حين أن على الصيغة الدستوريّة أن تساعد شعب الدولة على الخروج من الذاتيّات نحو الوطن، انطلاقًا من خصوصيّاتها التي أخذها الدستور وعقلناها، حتى تستقرّ الدولة على الوظائف المطلوبة منها تجاه هذا الشعب. ذلك أنّ الدولة وحدة حيّة، لا هيكليّة جامدة.
ب- دفع تعثر الانصهار، وبالتالي فشل الصيغة الوحدويّة، إلى سلوك طريق التسويات التي حاولت أن تقوم بالتوسّط مكان الحلّ الدستوريّ، عن طريق إدارة تعثّرات الصيغة وإخفاقات الدستور، ففتحت الباب على مصرعيه للعبة السياسيّة التي جرّت البلاد إلى إزماتٍ متتاليّة، تمّ التعامل معها غالبًا بالتذاكي والتشاطر واقتناص الفرص، بدل تحويلها مَهمّة حضاريّة.
هنا، وأمام ما وصلنا إليه في هذه الأزمة الأخيرة، أرى أننا نحتاج إلى مَهمّة حضاريّة تعيد للبنان عمق معنى هوّيته كما قدّمنا لها. وهذه المَهمّة تحتاج إلى مقومين أساسيين:
المقوّم الأول: علائقيّ قِيميّ يقوم على إيجاد توليفة بين عمق الرِبَاط الذي عُبّر عنه بالعيش المشترك والمعنى الحضاري، عن طريق رفع العيش معًا إلى مستوى القِيمة الموجِهة. المقوم الثاني: تاريخيّ حقوقيّ، وهو مَهمّةٌ دقيقةٌ جدًّا، أستعين هنا بثالوثين، كرّست لهما أليدا أَسمن (Aleida Assman) كتابًا بعنوان إعادة اكتشاف الأمّة (2020). عن الأول، تقول: “هناك روابط وثيقة بين شكل الدولة، والأمّة والسرديّة”. وعن الثاني: “علاقة بين الثقافة، والأمّة والهوّيّة”. تعتقد أَسمن أنّ هذين الثالوثين يتكوّنان عبر مسارٍ تاريخيٍّ تعدّديٍّ لا آحَاديّ. والهوّيّة كرِبَاط تكون حصيلة هذا التكوّن، مع بقائها مركّبة وتعدّديّة. بالتالي، يكون الشعب الذي ينتمي إلى الدولة من منطلق هذين الثالوثين وبالاستناد إلى المعطى الحقوقيّ: “شعب الدولة لا بكونه مجرد مجموع منتمين إليها، بل بكونه أمّة تفهم ذاتها جماعةً سياسيّة”، أي وجه يعكس حقيقة جوهره. فيصير المعطى القِيميّ والحضاريّ أساس الرِبَاط، ويستحيل الرِبَاطَ مصدر تماسك الجماعة السياسيّة. لكن هذين المُقَوّمين لا يكتملان من دون عالمٍ منظورٍ هو الدولة في بنيتها الحقوقيّة التي تعطي هذه الهوّيّة جسدًا.
في ضوء هذين المقومين، تتبين لنا الحاجة إلى تغيير في الأنموذج الذي أمسك بنا حتى اليوم، وذلك بالانتقال من الوحدويّة اليعقوبيّة إلى الوحدة التعدّديّة الوظائفيّة. وهذا لا يتمّ عن طريق التسويات، بل عن طريق المَهام الحضاريّة، حتى تبلغ الهوّيّة بعدها الحقيقيّ كرِبَاطٍ ودورٍ ووظيفيّةٍ.
أم كيف يكون ذلك؟ فالأمر يتعلق بشكل الدولة الذي يفسّر هذه الهوّيّة. ويكون الشكل الأقرب في الدولة الاتّحاديّة. لا أقصد في ذلك فيدراليّة أو كونفدراليّة ولا حتى لا مركزيّة إدارية أو سياسية، بل أعني الاتّحاد، أي الشكل الذي يفسّر العلاقة بين الوحدة في التعدّد. أمّا الشكل الحقوقيّ لهذه الدولة، فهو غير قابل للاستيراد، إنما يتوجب على اللبنانيّين أن يستنبطوه. هذا ما هي عليه الهوّيّة اللبنانيّة، في أصلها رِبَاط يجمع الوحدة بالتعدّد وفي مآلها اتحادية في دولة توافق حقيقتها.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه