كتب عقل العويط في النهار بتاريخ 17 شباط 2022
في 27 تموز 1937 وُلد أنسي الحاج. في 18 شباط 2014 تخلّى عن كلّ شيء، تاركًا للعالم أشعارًا ملعونةً (مباركة)، وتخلّى أيضًا عن الحياة ليتركها وحيدةً، وكم غادرها بقسوة. أقول في تلك المغادرة ما يأتي: يا لهذه الحياة الثكلى. يا لهذه الحياة الأرملة! فكيف تركتَها أيّها الشاعر، تصير ثكلى وأرملة، بعدما نهبتَ الذهب، ونهبتَ الوردة، ثم أرجعتَ الذهب إلى عرشه، كما لم يسبقْ له أنْ كان ذهبًا وعاد، وأرجعتَ الوردة إلى حديقتها كما لم يسبقْ لوردةٍ أنْ كانت وردةً في حديقة، وعادت تكون هي الحديقة؟!
سأبدأكَ على طريقتي، من جديد، كأنّ ما حصل لم يسبقْ له أنْ حصل، مستعينًا بما لكَ وهو لكَ، وسيظلّ: “ليكن فيَّ جميعُ ال#شعراء لأنّ الوديعة أكبر من يديّ”. بهذه العبارة، قدّمتَ لقصيدتكَ “الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع”. وأيّ تقديم. وإذ أذكّر به، لا يسعني إلّا أنْ أهتف له، إلّا أنْ أهتف لكَ: يا لهذا الترهّب، أيّها الشاعر، يا له ممهورًا بالتهيّب، بالرهبة، بالتواضع، بالامّحاء، بالانسحاق. فإنّي ما رأيتُ أحدًا يصلّي – في الشعر – صلاةً كصلاتكَ كهذه. ما رأيتُ أحدًا يصلّي لامرأةٍ معشوقةٍ، هي وديعة. بل هي الوديعة. فأيّ وديعةٍ هي هذه، يا أنسي، لا تتّسع لها يداكَ، لا يتّسع لها قلبكَ، لا تتّسع لها عيناكَ، وروحكَ، والحياة كلّها، وأوراق الكتابة الشعريّة؟! قلْ لي، عن أيّ وديعةٍ تتحدّث وتكتب؟ أتتحدّث أتكتب عن وديعة الحبّ؟ عن وديعة المرأة المحبوبة؟ عن المرأة المرأة والمرأة القصيدة والمرأة الصوت والأغنية؟ أم ماذا؟
إنّي أستدعيكَ استدعاءً، فـ”احضرْ حالًا” (هذا القول الأخير هو لكَ، آنْ كنتَ تخاطب يسوع المسيح في أحد نصوصكَ). إنّي أُصدِر في حقّكَ مذكّرة جلبٍ، فاحضرْ على وجه السرعة، ملء رغبتكَ والإرادة. لأنّي أستطيع أنْ أفعل ذلك (بالقوّة الفلسفيّة)، وأنْ أرتكب، وأنْ أستخفّ بالقانون. لن أحاول أنْ أقع في صلاتكَ، في “خديعتكَ” الشعريّة هذه، لأنّي أكترث، ولأنّي بحثتُ، وعثرتُ، ولم أعثر. ولأنّي لن أجد جوابًا يشفي غليلكَ الذي لا شفاء، لا ارتواء له. ولا ضرورة. بل العكس. بل العكس هو المرتجى، هو المبتغى المطلوب.
إنّي أستدعيكَ بالقوّة الروحيّة التي لا أملكها. وأستدعيكَ استدعاءً لأنّكَ حقًّا عارفٌ وجاهلٌ. عارفٌ أنّكَ لا تحتاج إلى شعراء آخرين ليسكنوكَ، ليسعفوكَ، ولتكتب بأيديهم، وليكتبوا بيدكَ، ما أنتَ عاكفٌ على كتابته منذ النصّ الأوّل، منذ قصيدتك الأولى. وأيضًا ما كنتَ لا تزال عاكفًا عليه، عندما كنتَ لا تزال تسمّي نفسكَ عابرًا، وسراب عارفٍ، وأنتَ عارفٌ ما أنتَ جاهل، ومتجاهلٌ ما أنتَ عارف.
أليس الوهم، أليس السراب، هو الشعر؟!
تذكر، ولا شكّ، أنّكَ القائل – أليس كذلك؟! – “سحقًا للشعراء/ لولا ضجري منهم/ لما كتبتُ الشعر/ ولو لم أكتب الشعر/ لكنتُ بقيتُ/ كما كنتُ في مطلع العمر/ مجموعة أشعار غامضة/ لا أسمح بالاقتراب منها/ إلاّ لمَن يعطيني كلّ شيء”.
يا لضجركَ القاتل، أيّها الشاعر الملعون. ضجركُ سخيٌّ ومدرارٌ، ليس من الشعراء فحسب، بل من نفسكَ خصوصًا، من الوجود، ومن شعركَ على الأخصّ. وأيضًا يا لغموضكَ الفضّاح. بل يا لطمعكَ البلا حدود. فأنتَ تخطو في العتمة، معتقدًا أنّ العتمة وحدها تراكَ، وأنّها وحدها تعرف، وتكتم. لكنّ العتمة ثرثارة، أيّها الشاعر، وهي تراكَ تستولي ولا تكتفي. بل تراكَ تريد وتستزيد. وهي تثرثر وراء ظهركَ، وخلال نومكَ النهاريّ، فتقول إنّكَ تريد كلّ شيء. كلّ شيء. وإلى ما لا نهاية.
هكذا إذًا، أيّها الشاعر.
فأنتَ عارفٌ أنّكَ تسدّ الأبواب في وجوه الجميع، لكنّكَ توهمهم بأنّكَ تفتحها. وهم يقعون في الوهم. يا للسذاجة. والحال هذه، لن يكون في مقدور أحدٍ أنْ يقترب منكَ، أنْ يصل إليكَ، أنْ ينادمكَ، وأنْ يعطيكَ قلبه، وقلمه، والورقة البيضاء. والكأس.
لكنْ، مهلًا. فأنا “سأخدعكَ” قليلًا. و”سأخدعكَ” بقوّة. و”سأخدعكَ” بحبّ، ودائمًا بحبّ. فأنتَ لن تعرف أنّي وصلتُ إليكَ. وأنّي وصلتُ حقًّا وفعلًا إليكَ. ولن يخطر في بالكَ كيف وصلتُ، ومتى. إنّي وصلتُ بعدما داخَلَكَ الاطمئنان – يا لوهمكَ القاتل – أنّ الجميع نائمون، وأنّكَ أنتَ الوحيد المستيقظ في الليل، لأنّكَ لا تنام الليل. ألا تعرف، أيّها الشاعر، أنّ الليل أيضًا لا ينام، يا أنسي. وأنّ ثمّة أيضًا مَن لا ينام الليل لأنّه يصير ليلًا من فرط النفس، التي هي الليلة الليلاء. ثمّة من يَعرف المعادلة – اللعبة هذه، لعبتكَ الطفلة الرهيبة. لذا يمكنه أنْ يكون ليلكَ، ويمكنه أنْ يكون إيّاكَ، ومعكَ، من دون أنْ تدرك، من دون أنْ تشعر بوجوده. ويمكنه أنْ ينادمكَ طويلًا وعميقًا في هذا الليل، في كلّ ليل، من دون أنْ تراه، أو تستشعر مُنادمته لكَ، والمسامرة.
هل فهمتَ؟ هل أدركتَ؟ ألم أقلْ إنّي “سأخدعكَ” قليلًا، وبقوّة، لكنْ دائمًا بحبّ؟ فراستُكَ لا تُضاهى. إذ يكفي أنْ لا تنظر، أو أنْ تنظر من طرف عينيكَ. يكفي ذلك. ويفيض. لكنّ الليل خادعٌ، أيّها الشاعر، لأنّه ليلٌ. ومَن يصير ليلًا، يستطيع أنْ يفضح المعادلة، ويلعب اللعبة ذاتها. لا بدّ أنّ تكون هذه المسألة قد أصبحتْ واضحةً لديك. لا بدّ أنّها كانت واضحةً مذ كنتَ جنينًا في بطن الأمومة السمحاء.
يا للوضح الفاجر!
هناك أمورٌ أخرى. وأسبابٌ أخرى. فأنتَ “أنانيٌّ” للغاية، لأنّكَ تختار أنْ تُنادِم عقلكَ الباطن، قلبكَ الباطن، وأنْ تسامرهما. لذا يصحّ القول فيكَ إنّكَ تتقصّد أنْ لا تنتبه للعالم. باعتبار أنّكَ “مأخوذٌ”، و”مخطوفٌ”. والحقّ الحقّ أقول لكَ إنّكَ “آخِذٌ”، و”خاطفٌ”، ولامبالٍ، ولا تلوي على شيء أو على أحد. وهذا هو دأبكَ في الأحوال كلّها.
إنّه الشعر. أليس كذلك؟ يخدع اللغة، ويخدع القارئ، ويوقعهما في الخديعة الشعريّة. وما أجملها خديعةً أيّها الشاعر! لكنّ الخديعة ليس لها حدّ، وهي تكتمل، عندما الشعر يخدع الشاعر، وعندما يعرف الشاعر أنّه مخدوع. وقد كنتَ أنتَ عارفًا جاهلًا، عارفًا متجاهلًا، أيّها الداهية!
إنّها الأوجاع، الأوجاع الشخصيّة يا أنسي الحاج. وتقول في “العاصفة”، “أكرّر/ أكرّر/ حتى تصبح قاعدةً للاحترام: الأوجاع الأوجاع الشخصية”. وهي تنهبكَ، وأنتَ تنهبها، وتنهب ما أُعطيتَ، وكلّ ما كان في مرمى وعيكَ الباطن، وهو شغبكَ الجميل، متواطئًا مع أوجاعكَ، وغائرًا فيها، وأيضًا من دون أنْ تستأذن أحدًا، أو تسأل رأيًا. ألم يعثروا عليكَ تائهًا، دائخًا، سكرانَ، ذاهبًا وراء ظلّكَ – ظلّها، وهو طريدتكَ القصوى، بعزمٍ يشبه عزم الأسود الجائعة، لكنْ بحنانٍ، ولهفة؟!
وأنتَ مفترسٌ، أيّها الشاعر. وإذ تفترس، لا يبدر ما يومئ إلى الافتراس، بقدر ما يبدر التلمّظ الناجم عن وليمةٍ، عن لذّةٍ هي المنتهى الخالص من كلّ شفاء. يا صديق النوم الذي تخشى أنْ يوقظكَ فجرٌ، فتساهر نجومكَ ومجرّاتكَ، ثمّ تنام من فرط الرغبة في عدم رؤية الضوء المولود، لئلّا تضطر إلى معاينة الترتيب الممضّ الذي يلفّ الخديعة الوجوديّة، الليلَ والنهار، وإلى ما لا نهاية له.
واعلمْ أيّها الشاعر، أنّكَ أخذتَ ما يؤخذ وما لا يؤخذ، وتركتَ ما يُترَك وما لا يُترَك. فمكَ الذي ارتوى قليلًا، يروي لمَن يريد ماضي الأيّام الآتية.
وأذكّركَ بأنّكَ القائل “ما عدتُ أحتمل الأرض فالأكبر من الأرض لا يحتملها”. وأذكّركَ – كم يجب أنْ أذكّركَ – بقولكَ “كلَما خسرتُ ربحتُ”؟
ها أنتَ، أيّها الشاعر، قد خسرتَ كلَّ شيء لتفوز بكلّ شيء.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه