كتب جورج صدقة في الجمهورية بتاريخ 18 شباط 2022
ننزف دموعاً ودماً حين ننظر الى الساحة السياسية في لبنان اليوم. الوطن يتآكل والشعب يهاجر فيما المسؤولون السياسيون يتقاتلون على الفُتات.
ما يُدمي قلبنا أنّ لبنان الوطن يتفكّك ويفقد هويته شيئاً فشيئاً من دون أن يرفّ جفن لهؤلاء المسؤولين. قد نفهم ترف سعد الحريري في أن ينكفئ عن الساحة السياسية بانتظار ظروف أفضل، فهو خلال وجوده في السلطة خسر كل شيء، وابتعاده عنها قد يعيد اليه بعض المكاسب. ثم لا خوف وجوديّا على طائفته، فالرئيسان ميقاتي والسنيوره يستطيعان تسيير أمور الطائفة ربما أفضل منه بانتظار ظروف أفضل.
وقد نفهم ترف القادة الشيعة، فهم مرتاحون الى وضعهم فيما يبقى اصبعهم على الزناد، فلا خوف على حصّتهم في السلطة ولا على حصّة غيرهم التي يضعون يدهم عليها، فيما هم يعتبرون أن عنصر الوقت يلعب لصالحهم.
ما لا نفهمه هو تصرفات المسؤولين المسيحيين، قياديين، رؤساء أحزاب وقادة روحيين، يسمحون لأنفسهم بترف المزايدات السياسية والمماحكات بين بعضهم وكأنهم غير مدركين أن بيتهم المسيحي يحترق.
هل يعي المسؤولون المسيحيون جميعاً، زمنيّين وروحيّين، خطورة ما وصل اليه الوطن، وما وصلت اليه المؤسسات وما وصلت اليه حال الشعب؟ على الارجح هم لا يدركون، والّا لكانوا تصرفوا غير ذلك. لكانوا على الاقل أوقفوا مماحكاتهم والتقوا ليتدارسوا مستقبل الوطن ومستقبل طائفتهم. فالانهيار لن يطال الوطن والطائفة فقط بل سيطالهم شخصيا ويطال أولادهم وعائلاتهم ومستقبلهم جميعا.
كأنهم لا يسمعون صراخ العائلات. كأنهم لا يقرأون احصاءات التعداد السكاني ولا يطّلعون على أرقام الهجرة. كأنهم لا يتابعون استطلاعات الرأي عن قرف الناس منهم ورغبة غالبية الشباب بترك البلاد.
على الأرجح هم لا يتابعون. أما اذا كانوا مدركين ويستمرون في لامبالاتهم فيعني ذلك أنهم يلعبون رهانات خطيرة قد تكون قاضية على شعبهم وعلى الوطن، وستحلّ لعنة التاريخ عليهم. ستكون تتمة للعنة جمال باشا السفاح، الذي حاصر جبل لبنان فمات ربع شعبه من الجوع وهاجر قسم كبير منهم.
لو كانوا يتابعون لكانوا اقتدوا بما فعله القادة المسيحيون عام 1975 حين هدّدت “منظمة التحرير الفلسطينية” الكيان اللبناني، فالتقوا كبارهم حينها: كميل شمعون وبيار الجميل وسليمان فرنجيه وشارل مالك وفؤاد افرام البستاني وجواد بولس وغيرهم، وأسّسوا الجبهة اللبنانية التي وضعت ما يلزم من دراسات وخطط لوقف الهيمنة الفلسطينية والحفاظ على الكيان، ومحاضر مؤتمرات سيدة البير شاهدة على ذلك.
وضع لبنان اليوم هو أسوأ من عام 1975. هو مهدّد من الداخل والخارج في هويّته وانتمائه وسيادته، فيما الطائفة التي تبدو الاكثر حرجاً في وضعها هي الطائفة المسيحية، التي يتناقص عددها بشكل يهدّد التوازن السياسي والشعبي في لبنان.
في مواجهة هذه الاخطار الجسيمة المحدقة بالوطن لا موقف مسيحيا موحدا، لا رؤية، لا مشروع سياسيا أو اجتماعيا لوقف الانحدار والمحافظة على الشعب والكيان. هل يدرك المسؤولون المسيحيون أن وضعهم اليوم هو أشبه بوضع حكّام القسطنطينية تحت الحصار؟
هل نزل أحد هؤلاء المسؤولين الى الشارع ليستطلع أحوال الناس وما يقولونه عنهم؟ هل خرجوا قليلا من قصورهم ليروا كيف يعيش شعبهم؟ هل ابتعدوا قليلا عن مستشاريهم وشعراء بلاطهم ليتلمّسوا بأنفسهم حال الرعية؟ على الأرجح لا، والّا لكانوا تصرّفوا غير ذلك.
هل يعقل أن يستمرّوا في صراعاتهم على صفقة من هنا وكرسي من هناك فيما الوطن بأكمله يحترق؟ لم ينس الناس بعد حروبهم الدموية التي أدّت الى انهيار الوطن وسقوط السيادة. وها هم اليوم يستمرّون في الاتجاه نفسه وإن بأسلحة أخرى وتحالفات أخرى.
ماذا يمنع اليوم سمير جعجع من أن يلتقي بسامي الجميّل؟ وماذا يمنع اليوم جبران باسيل من أن يكرّر اتفاق معراب على مبدأ الحفاظ على الوجود المسيحي؟ وكيف يمكنه المطالبة بصلاحيات المسيحيين فيما هو لا ينفكّ ينبش تاريخ الحرب التي تزيد من انقسام الصف المسيحي؟ وماذا يمنع “التيار الوطني الحر” من أن يربط اتفاق مار مخايل باستعادة بعض السيادة؟ وماذا يمنع البطريرك الراعي من اطلاق صرخة، خارج العظات والتمنيات، يتوجّه فيها الى الشعب وليس الى الذين لا يريدون أن يسمعوا في مبادرة تُحرّك الشارع وتعيد له بعض الامل والمعنويات؟ قد يرى البعض هذه الاقتراحات من باب الاحلام، قد يكون ذلك، لكن ما البديل منها لوقف الانهيار؟ جميعهم مطالبون اليوم بإعطاء أمل للشعب اليائس من الوضع والتائق الى الهجرة؟
البطريرك صفير، في ظروف سياسية أقسى من التي نعيشها اليوم، أطلق تجمّع قرنة شهوان في مبادرة وطنية شجاعة قادت الى جمع الشمل وإطلاق حركة مقاومة ضد الهيمنة السورية.
ان القادة يتميّزون في أوقات المحن والشدائد فيجترحون حلولا واقتراحات قد تبدو مجنونة في بعض الأحيان. فالظروف الاستثنائية يلزمها مبادرات استثنائية وليس مساومات وتقطيع وقت في انتظار ما سيحدث. أو في انتظار انتخابات لسنا متأكدين من حصولها ولا من نتائجها ولا ما قد يسبقها ويليها من أحداث كبرى. القائد الفعلي هو من يغيّر المعادلات القائمة ويفرض معادلات جديدة، هو من ينطلق من رؤية وطنية لمصلحة الشعب والوطن وليس من أجل مكاسب شخصية صغيرة. نقول هذا لأن الوقت يلعب ضد الوجود المسيحي في لبنان وضد لبنان كيانا ووطنا.
أيها القادة المسيحيون، أنتم مؤتمنون اليوم على تاريخ المجموعة وتاريخ الوطن، وسيحمّلكم التاريخ مسؤولية التفريط بهذه الأمانة.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه