“من خلال العناية بالحياة، بجميع أشكالها، يتمم نوح وصية الله مُكرِّرًا لفتة الخلق الحنونة والسخية، التي هي في الواقع الفكر عينه الذي يلهم وصية الله” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في مقابلته العامة مع المؤمنين
أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في قاعة بولس السادس بالفاتيكان واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول تخبرنا الرواية البيبليّة – مع اللغة الرمزية للحقبة التي كُتبت فيها – شيئًا مثيرًا للإعجاب: لقد شعر الله بالمرارة بسبب الشر المنتشر بين البشر، والذي أصبح أسلوبًا طبيعيًا للحياة، لدرجة أنه اعتقد أنه قد أخطأ بخلقهم وقرر أن يُهلكهم. حل جذري. ربما قد يتناقض مع الرحمة. لا بشر بعد الآن، لا تاريخ بعد الآن، لا أحكام بعد الآن، ولا إدانة بعد الآن. وكان بإمكانه أن يُجنب العديد من الأشخاص من أن يُصبحوا ضحايا للفساد والعنف والظلم.
تابع البابا فرنسيس يقول ألا يحدث لنا أيضًا في بعض الأحيان – إذ يخنقنا الشعور بالعجز إزاء الشر أو يُحبطنا “أنبياء الهلاك” – أن نفكر أنه كان من الأفضل لنا ألا نولد؟ هل يجب أن ننسب الفضل إلى بعض النظريات الحديثة التي تدين الجنس البشري معتبرة إياه ضررًا تطوريًا للحياة على كوكبنا؟ في الواقع، نحن تحت ضغط، ونتعرض لضغوط متعارضة تجعلنا نرتبك. من ناحية أخرى، لدينا تفاؤل شباب أزلي، أشعله التقدم غير العادي للتكنولوجيا، الذي يرسم مستقبلًا مليئًا بآلات أكثر فعالية وذكاء منا، ستعالج أمراضنا وتفكر لنا في أفضل الحلول لكي لا نموت. من ناحية أخرى، يبدو أن خيالنا يركز بشكل أكبر على تمثيل كارثة نهائية ستقضي علينا. وفي “اليوم التالي” – إذا كان لا يزال هناك أيام وكائنات بشريّة – سيتوجّب علينا أن نبدأ من الصفر. لا أريد أن أجعل موضوع التقدم تافهاً بالطبع. لكن يبدو أن رمز الطوفان يكتسب أرضية في اللاوعي لدينا. كذلك، يشكل الوباء الحالي خطرًا كبيرًا على تمثيلنا الحر للأشياء المهمة للحياة ومصيرها.
أضاف الأب الأقدس يقول في الرواية البيبليّة، عندما كان الأمر يتعلق بإنقاذ حياة الأرض من الفساد والطوفان، أوكل الله المهمّة إلى أمانة نوح الأكبر سنًّا بين الجميع و”البار”. هل ستنقذ الشيخوخة العالم؟ بأي معنى؟ وكيف؟ وما هو الافق؟ الحياة بعد الموت أم مجرد البقاء على قيد الحياة حتى الفيضان؟ إن كلمة يسوع، التي تذكّر بـ “أيام نوح”، تساعدنا لكي نتعمّق بمعنى المقطع الذي سمعناه من الكتاب المقدس. قال يسوع متحدثًا عن الأزمنة الأخيرة: “وكما حدَثَ في أَيَّامِ نوح، فكذلِكَ يَحدُثُ في أَيَّامِ ابنِ الإنسان: كانَ النَّاسُ يأكُلونَ ويشرَبون، والرِّجالُ يَتَزَوَّجونَ والنِّساءُ يُزَوَّجْنَ، إِلى يَومَ دخَلَ نُوحٌ السَّفينة، فجاءَ الطُّوفانُ وأَهلَكَهُم أَجمَعين”. إنَّ الأكل والشرب، والزواج في الواقع هي أمور طبيعية جدًا ولا يبدو أنها أمثلة على الفساد. فأين الفساد إذًا؟ في الواقع، يُسلّط يسوع الضوء على أنّه، عندما يحدُّ البشر ذواتهم بالاستمتاع بالحياة، يفقدون حتى الحس بالفساد، الذي يميت كرامتها ويسمم معناها. فيعيشون الفساد أيضًا برخاء البال، كما لو كان جزءًا من الحياة الطبيعية للرفاهية البشريّة. فتُستهلك خيور الحياة ويتمُّ الاستمتاع بها دون الاهتمام بالجودة الروحية للحياة، ودون العناية بموطن البيت المشترك. بدون أن نقلق للإهانة واليأس الذي يعاني منهما الكثيرون، ولا حتى للشر الذي يسمم الجماعة. طالما أنّه يمكن للحياة الطبيعية أن تمتلئ بـ “الرفاهية”، نحن لا نريد أنَّ نفكّر فيما يجعلها خالية من العدالة والحب.
تابع البابا فرنسيس يقول هل يمكن أن يصبح الفساد أمرا طبيعيا؟ نعم لسوء الحظ. وماذا يفتح لها الطريق؟ رخاء البال الذي يتوجّه فقط إلى العناية بالنفس: هذا هو الممرّ الذي يفتح الباب أمام الفساد الذي يغرق حياة الجميع. يستفيد الفساد بشكل كبير من رخاء البال السيّء هذا: فهو يلين دفاعاتنا، ويشوش ضميرنا ويجعلنا متواطئين حتى عن غير قصد. إنَّ الشيخوخة هي في المكان المناسب لكي نفهم خداع هذا التطبيع لحياة مهووسة بالتمتع وفارغة من الحياة الداخلية: حياة بدون فكر، بدون تضحية، بدون جمال، بدون حقيقة، بدون عدالة، بدون حب. على حساسية الشيخوخة الخاصة للانتباه والأفكار والعواطف التي تجعلنا بشرًا أن تصبح مجدّدًا دعوة للكثيرين. وستكون خيار حبٍّ من المُسنّنين للأجيال الجديدة. إنَّ بركة الله تختار الشيخوخة، لهذه الموهبة الإنسانيّة والمؤنسنة.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول ونوح هو مثال هذه الشيخوخة المولِّدة: فنوح لا يعظ ولا يشتكي ولا يردَّ الاِتِّهَام بِاتِّهَام، بل يعتني بمستقبل الجيل المعرض للخطر. بنى فلك الاستقبال وسمح للبشر والحيوانات بأن يدخلوا إليه. من خلال العناية بالحياة، بجميع أشكالها، يتمم نوح وصية الله مُكرِّرًا لفتة الخلق الحنونة والسخية، التي هي في الواقع الفكر عينه الذي يلهم وصية الله: بركة جديدة، وخليقة جديدة. تبقى دعوة نوح آنيّة على الدوام، وبالتالي لا يزال على أبينا المقدّس أن يتشفع فينا. ونحن النساء والرجال المُنتمين إلى سن معينة – لكي لا أقول مُسنّين، فيشعر البعض بالإهانة – لا ننسينَّ أنّه لدينا إمكانية الحكمة، لكي نقول للآخرين: “انظر، إنَّ درب الفساد هذا لا يؤدي إلى أي مكان”. يجب أن نكون مثل الخمرة الجيدة التي عندما تصبح عتيقة يمكنها أن تعطي رسالة صالحة. وأناشد اليوم جميع الأشخاص الذين ينتمون إلى سنٍّ معيّنة – لكي لا أقول مُسنّين – تنبّهوا: أنتم لديكم مسؤولية إدانة الفساد البشري الذي نعيش فيه والذي يسير فيه قدمًا أسلوب الحياة النسبي هذا، كما لو كان كل شيء شرعي ومُباح. لنمضِ قدمًا. إنَّ العالم يحتاج إلى شباب أقوياء يسيرون قدمًا ولمسنّنين حكماء. لنطلب إذًا من الرب نعمة الحكمة.