الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني (واضع رؤية جمهورية لبنان الخامسة)
منذ بضعة أيام، وبمناسبة عيد ارتفاع الصليب لدى مسيحيي لبنان واستذكار الرمز الأساس للشهادة والاستشهاد في المسيحية والإنسانية وتكريمه، تمّ استخدام نبذة من أشرف وأنبل ما كتبه جبران خليل جبران عن وطنه لبنان في عز أزمة إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920.
نشر جبران كتابه “البدائع والطرائف” باللغة العربية، في مصر سنة 1923 وهذا يعني أن، في الذكرى المئوية للكتاب (1923 – 2023)، عاد البعض للاستشهاد بهذا العبقري في ما يخص “أي لبنان نريد؟” ومن هم اللبنانيون الأصيلون ومن هم الدخلاء.
لبنان الذي ما عشقه أحدٌ عشق جبران له، يحضر اليوم بكل قوته المعنوية بين المتخاصمين على هويتهم، والمسيئين لاستعمال “أفكار” عاشقه، ليؤكد من خلال النص المكتوب ما هو لبنان ولمن هو. أمام مسؤوليتنا المتتلمذة لكاتب “الأجنحة المتكسرة” نعيد الحق لصاحبه ونتّبع النص حرفياً حتى يتنوَّر به اللبناني الذي سمع الجدل المهين لأرواح الموتى، من أي فئة كانوا، دون أن يكون قد سمع بالنص الأصلي أو قرأه، إذ إن التمييز والتخاصم والتهكّم على حساب الموتى بخاصة الأبرياء الذين استشهدوا فداء عن الحق والعدل، هو تجبّر ضد الله عزّ وجل.
كيف وصّف جبران خليل جبران لبنان سنة 1920: إنه لبناننا (الذي لم يتغيّر على مدى مئة سنة). كتب قائلا:
“لكم لبنانكم ومعضلاته، لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، لكم لبنانكم فاقنَعوا به…
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلّها الأيام؛ لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي؛ لبنانكم صراع بين رجل جاء من الغرب ورجل جاء من الجنوب؛ لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها؛ لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي الضبع، والضبع حينما يجتمع بالذئب؛ لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين وقائد جيش؛ لبنانكم رجلان: رجل يؤدي المكوس ورجل يقبضها؛ لبنانكم مرافئ وبريد وتجارة؛ لبنانكم موظفون وعمال ومديرون؛ لبنانكم وفود ولجان؛ لبنانكم طوائف وأحزاب؛ لبنانكم خُطَبٌ ومحاضرات ومناقشات؛ لبنانكم كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء المستعار، ورياء يختبئ في رداء من التقليد والتصنع؛ لبنانكم شرائع وبنود على أوراق، وعقود وعهود في دفاتر؛ لبنانكم شيخ قابض على لحيته، قاطب ما بين عينيه ولا يفكر إلَّا بذاته؛ لبنانكم ينفصل آنًا عن سوريا ويتصل بها آونة، ثم يحتال على طرفيه ليكون بين معقود ومحلول…”
بهذا نكون قد استخلصنا من النص توصيف الكاتب للبناننا اليوم، ويا ليته بعد على ما وصفه آنذاك (نأمل من القارئ أن يعود للمقارنة في النص الأساسي وهو متوفر على الأنترنت). ننتقل الآن لنرى ماهية لبنانه هو.
لبنان جبران، في هذا النص، يتخطى المقاييس البشرية إلى الصوفية المستمدة من جمال الطبيعة في لبنان والمناخ الروحي النسكي الذي فرضه وادي قاديشا على منطقة الأرز وجُبّة بشري بكاملها. لذا لا يناسب اليوم أن نستمد الفكرة عن لبنانه من النص نفسه إنما نستلُّها من محتوى كتاب “حديقة النبي” حيث يتحدّث عن ويلات الأمة لنتصرّف بالنص على أساس أن الضدّ يظهر حسن ضدّه، وكأننا بجبران خليل جبران يقول:
لبناني لا تكثر فيه المذاهب والطوائف ويخلو من الدين؛ لبناني يلبس مما ينسج، ويأكل مما يزرع، ويشرب مما يعصر؛ لبناني لا يحسب المستبد بطلاً، ويرى الفاتح المذل رحيمًا؛ لبناني يرفع صوته عالياً في المحافل الدولية وليس بالجنازات، ويفخر بتاريخه المديد عبر العصور وبأجياله التي تملأ اليوم العالم عبقرية وذوقا ومهارات ولا يفخر بالخراب؛ لبناني يثور في كل مرّة يهان الحق ويذل إنسان وليس فقط متى بات عنقه بين السيف والنطع؛ لبناني يرفض السائس الثعلب، والفيلسوف المشعوذ، وفن الترقيع و التقليد؛ لبناني أمّة تستقبل حاكمها بالتبصّر وتوَدّعه بالتقدير، لتستقبل آخر بالرجاء والدعاء له بالتيسير. لبناني حكماؤه مختمرون من وقر السنين، ورجاله ونساؤه أبطال وعباقرة وقديسون منذ أقمطة السرير. لبناني لوحة سماوية غير قابلة للتقسيم، وكل جُزيء فيها ضربة ريشة دهريّة لا غنى عنها.
لننهي ونستعير من حكمة صاحب كتاب “النبي” قوله: “الحقيقة لا تتجزأ”، ولبنان حقيقة تاريخية سماوية من مسّ جوهره، ولو بالنيّة، مسّه سراب أهلك روحه. لذلك ينتهي فيلسوفنا إلى التأكيد قائلاً: “لو لم يكن لبنان وطني لاخترت لبنان وطنا لي”.
أما عمّن هم اللبنانيون الأصيلون ومن هم الغرباء الذين لا يشبهونهم فيقول جبران لمن أراد أن يكون أصيلا: “… لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل… إذا صمتّ، فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت… النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك. النصف هو أن تصل وأن لا تصل، أن تعمل وأن لا تعمل، أن تغيب وأن تحضر. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت، لأنك لم تعرف من أنت… أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة. ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك بل بما لا يستطيع أن يظهره، لذلك.. إذا أردت أن تعرفه فلا تُصغِ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله.”
وفي الختام، مع إعطاء كل ذي حق حقه، نحن أكيدون بأن مهما تغالظ الكلام السياسي الشعبوي المسيء لروح المواطنة السليمة ولكرامة الموت، في قلب كل لبناني رضع حليب أمه تمسُّكٌ إدماني بلبنان الواحد، السيد، المستقل. وهذا ما نهدف إليه من خلال تعديل دستور “الطائف” (أو لدقة أكثر، تكملته)، في ضوء رؤية “الجمهورية الخامسة”، كي يصل إلى الخواتيم المرجوَّة أصلا منه. رحم الله جبران خليل جبران ومن أنجبه من والدين، وأرض، وتاريخ، ورحم لبنان وكل من يتفيّأ ظلال أرزه.