هكذا أعلن النبي ناحوم نهاية نينوى، نهاية أمبراطورية الاستبداد الدموي التي دامت قرونًا.
مع وفاة أشوربانيبال (626 ق. م) بدأ الانهيار فجأة وبسرعة. فتكاتفت القوى العظمى الجديدة للهندو- آريين والساميين بالتضييق على هذا الكيان الجبّار وتهديمه وتقسيم الغنائم الهائلة فيما بينها.
فنشأت في الشمال الشرقي مملكة الميديين بجبال إيران. كتب هيرودوتُس: “استولى سياكسار على الحُكم” ووحّد بقيادته كل آسيا على الضفة الأخرى لنهرهاليس (النهر الأحمر). جمع حوله كل من وقع تحت سيطرته وخرج إلى نينوى للإستيلاء على تلك المدينة “.
في جنوب شرقي بلاد الرافدين، كان الآشوريون العدو الثاني الذي يؤخذ على محمل الجِد. من محيط الأراضي المزروعة جنوب مصب الفرات، حيث تقع أيضا ” أور الكلدانيين”، توغلت قبائل ساميّة وأمدّت الإمبراطورية القديمة حول بابل بقوى جديدة. أطلقوا على أنفسهم كلدانيين. مردوخ – بلادان، الذي كان محور الحديث قبل قرن من الزمان، وأثار الرعب في بلاد آشور عشرات السنين، كان واحدًا منهم.
في غضون ذلك، إستطاع مواطنوه فرض إرادتهم على البلاد جميعا من خلال تدفق المزيد. 623 ق. م. استولى كلداني على جنوب بلاد ما بين النهرين. أصبح نبوبولاسر ملكً ومؤسس الإمبراطورية البابلية الجديدة. الكلدانيون أيضا كان لهم هدف واحد لا غير، تدمير آشور.
في الوقت الذي كانت الدولتان في الشمال والجنوب تقفان بالمرصاد لتوجيه الضربة القاضية لبلاد آشور، اقتحم جيش وحشي من القوقاز منطقة “الهلال الخصيب”، فتسلّل عبر ميديا واجتاح الإمبراطورية الآشورية – إنهم السقيتيون. فسلبوا ونهبوا بطريقهم من بلاد ما بين النهرين عبر فلسطين وصولا إلى حدود مصر.
إندفعت جحافل الخيّالة السقيتيين الجامحة عبر السهل الساحلي على البحر الأبيض المتوسط. وسبقتهم شائعات عن الخوف والرعب. لا بد أن سكان يهوذا قد رأوهم من علو. يرى صفنيا النبي بخوف ما سيأتي. لأَنَّ غَزَّةَ تَكُونُ مَتْرُوكَةً، وَأَشْقَلُونَ لِلْخَرَابِ. أَشْدُودُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ يَطْرُدُونَهَا، وَعَقْرُونُ تُسْتَأْصَلُ. … فِي بُيُوتِ أَشْقَلُونَ عِنْدَ الْمَسَاءِ يَرْبُضُونَ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَهُمْ يَتَعَهَّدُهُمْ وَيَرُدُّ سَبْيَهُ”… (صفنيا 2: 4-7).
يروي هيرودوتُس: “خرجوا على مصر” ، ومثلهم في سوريا الفلسطينية (“سوريا الفلسطينية” كانت اسم مقاطعة تابعة للإمبراطورية الرومانية في منطقة فلسطين). قابلهم بسماتيك الأول (663-609 قبل الميلاد)، ملك مصر، ومنعهم عن التوغّل أكثر بالهدايا والتوسلات. وبينما كان السقيتيون يتراجعون في مدينة أشقلون السورية، بقي عدد قليل منهم ونهبوا معبد أفروديت أورانيا. أولئك السقيتيون إذن، الذين سلبوا الحرم في أسقلان، وذريتهم، قد أصابتهم الإلاهة بمرض أنثوي “.
بعد عقد من الزمن، اختفى الخيّالة الآسيويون ثانيا عن الأنظار كشبح شرير.
في فلسطين، بقيت ذكرى السقيتيين ماثلة في إسم مدينة. فتحولت ‘بيسان’ القديمة إلى ‘سقيتوبوليس’. وها ان الميديين والبابليين الجدد راحوا يتقدمون ضد الآشوريين من جهتين في وقت واحد من الشمال والجنوب. كانت آشور، المدينة العظيمة والحصينة على نهر دجلة، أول من سقط عام 614 قبل الميلاد. جاء في الأخبار النيوبابلونية “إن ملك بابل وجيشه، الذين هبّوا لمساعدة الميديين، لم يأتوا إلى المعركة في الوقت المناسب. إلا أن ملك بابل وسياكسارِ، ملك الميديين إلتقيا على أنقاض المدينة وعقدا صداقة وتحالفًا بعضُهما مع بعض… نهبوا في المدينة غنائم عظيمة لا تُحصى ولا تقاس، وأحالوا المدينة جبالَ خرائب وأنقاض. »
612 ق. م. أوشك الحلفاء الميديون والبابليون الجدد على الوصول؛ بعد “معركة عنيفة جرى اقتحام المدينة”؛ وآلت نينوى إلى خراب! ويمُدّ يدَه على الشِّمال وَيُبِيدُ أَشُّورَ، وَيَجْعَلُ نينوى خَرَابًا يَابِسَةً كَالْقَفْرِ. (صفنيا 2، 13)
وقُضي الأمر. تم تدمير وحرق مركز القيادة في نينوى، الذي لم يجلب سوى الدماء والدموع إلى العالم القديم على مدى قرون من الغزو والاحتلال والتعذيب والإرهاب والترحيل الجماعي.
تنفس “الهلال الخصيب” الصعداء. وعمّت البهجة الشعوب المعذبة – وانبثقت آمال جديدة.
في يهوذا أيضا.
بعد موت آشوربانيبال، أبطل الملك الآشوري البغيض يوشيا (639-609 قبل الميلاد) بلا تردّد إقامة شعائر الدولة الأجنبية في القدس. كان هذا أكثر من مجرد ولاء ديني، تجسده آلهة نينوى التي تم استيرادها قسراً. مع هذه الآلهة المفروضة، وكذلك السحرة والعرافون والترافيم والأصنام وجميع الرجاسات التي رئيت في أرض يهوذا وفي أورشليم، أبادها يوشيا وأخرجها من بلاد الرافدين (2 ملوك 23، 24). كما طرد عبادة كنعان (2 ملوك 23: 7).
مهدت إصلاحات يوشيا الطريق لإحساس ديني ووطني بالحياة أدى إلى سكرة حرية حقيقية، عندما وصل خبر سقوط نينوى.
في غضون ذلك وقع حدث غير متوقع بالمرة هدد بنسف كل شيء مرة أخرى: في أيامه صعد فرعون نخو ملك مصر على ملك أشور إلى نهر الفرات فصعد الملك يوشيا للقائه فقتله في مجدو حين رآه (2 ملوك 23، 29). هذا النص من الكتاب المقدس أقرب ما يكون إلى مثال مجسِّم لحقيقة أن كلمة واحدة بإمكانها تحريف معنى تقرير كلّيّا. هنا تدمَغ الكلمة الصغيرة على (بمعنى ضد) المستخدمة بشكل خاطئ، الملك يوشيا بدَمغة النصير للطغاة المكروهين. ففي وقت من الأوقات قديمًا، نُقلت كلمة “على” (ضد) خطأ. في الواقع أن فرعون نخو جاء لمساعدة الآشوري أي “نَحْو” (نَحوَهُ). فقط من خلال لَقيّة عرضية اكتشف العالم المتخصص في الخط المسماري سيريل جون غادّ Cyril John Gadd هذا الخطأ الكتابي الشيطاني التاريخي.
أمّا مكان الإكتشاف – متحف – فكان خارج النموذج الأثري كلّيّا. في العام 1923، ترجم Gadd في المتحف البريطاني في لندن وثيقة بالخط المسمارية تعرضت للتلف الشديد إستُخرجت بالحفر قبل سنوات في بلاد ما بين النهرين.
ونصها كالآتي: “في شهر دووز (حزيران / تموز 609 ق.م.) سار ملك آشور على رأس جيش مصري كبير ضد حاران لغزوها … ظلّ حتى شهر أولول (آب / إيلول) يقاتل ضد المدينة دون أن يحقق شيئًا “.
كان “الجيش المصري العظيم” قوة الفرعون نِخو الحربية.
بعد سقوط نينوى، تراجعت فلول القوة الآشورية إلى شمال بلاد ما بين النهرين. وقام ملكهم من هناك بمحاولة يائسة لاستعادة ما فقد. هرع فرعون نخو لمساعدته. إلاّ أن نِخو انسحب مجددا بعد فشله في الاستيلاء على مدينة حاران إثر شهرين من القتال؛
ثم ان ظهور قوات مصرية في فلسطين قد دفع بالملك يوشيا لاتخاذ قرار بوقف المساعدات العسكرية المصرية للآشوريين المكروهين مهما كلف الأمر.