“لكي نصنع الخير حقًا، ما لا غنى عنه هو القلب الصالح، المصمِّم على أن يبحث عما هو الأفضل للآخر” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته في لقائه العاملين في مجال الأعمال الخيرية في أولانباتار
في إطار زيارته الرسولية إلى منغوليا توجّه قداسة البابا فرنسيس عند الساعة التاسعة والنصف بالتوقيت المحلي من صباح الاثنين إلى “بيت الرحمة” في أولانباتار حيث التقى العاملين في مجال الأعمال الخيرية وللمناسبة وجه الأب الأقدس كلمة قال فيها أشكركم من كلِّ قلبي على الاستقبال وعلى الرقص وعلى كلمات الترحيب وعلى شهاداتكم! أعتقد أنه يمكن تلخيصها جيدًا ببعض كلمات يسوع: “لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني”. هكذا يقدم لنا الرب المعيار لكي نتعرّف على حضوره في العالم والشرط لكي ندخل في فرح ملكوته النهائي عند الدينونة الأخيرة. على الفور أخذت الكنيسة هذه الحقيقة على محمل الجد، وأظهرت بأعمالها أن بعد المحبّة هو أساس هويتها. أفكر في روايات أعمال الرسل، وفي المبادرات العديدة التي اتخذتها الجماعة المسيحية الأولى لكي تضع كلمات يسوع موضع التنفيذ، وتعطي الحياة لكنيسة مبنية على أربعة ركائز: الشركة، والليتورجيا، والخدمة، والشهادة. من الرائع أن نرى، بعد كل هذه القرون، الروح عينه يطبع الكنيسة في منغوليا: ففي صغرها، هي تعيش من الشركة الأخوية، ومن الصلاة، ومن الخدمة المتجرّدة للبشرية المتألمة، ومن الشهادة لإيمانها. تمامًا مثل الأعمدة الأربعة للـ “Ger” الكبير، التي تعضد الحلة المركزية العلوية، وتسمح للمبنى بأن يقف وتقدّم فسحة مضيافة في الداخل.
تابع البابا فرنسيس يقول فها نحن إذن داخل هذا البيت الذي بنيتموه والذي أسعَدُ اليوم بمباركته وافتتاحه. إنه تعبير ملموس عن العناية بالآخر الذي يُعرف فيه المسيحيون؛ لأنه حيثما يكون هناك استقبال وضيافة وانفتاح على الآخر، يتنشق الإنسان رائحة المسيح الطيبة. إن بذل الذات في سبيل القريب، ومن أجل صحته، واحتياجاته الأساسية، وتنشئته وثقافته، ينتمي منذ البداية لهذا الجزء الحيوي من شعب الله. منذ وصول المرسلين الأوائل إلى أولانباتار في التسعينات، شعروا على الفور بالنداء إلى المحبة، الذي دفعهم لكي يعتنوا بالطفولة المحتاجة، والإخوة والأخوات المشردين، والمرضى، والأشخاص ذوي الإعاقة، والسجناء، وجميع الذين كانوا يعيشون في حالة ألم ويطلبون بأن يتمَّ استقبالهم.
واليوم أضاف الأب الأقدس يقول نرى كيف نما جذع من تلك الجذور، ونبتت الأغصان، وأزهرت ثمار كثيرة: مبادرات خيرية عديدة وجديرة بالثناء، تطورت إلى مشاريع طويلة الأمد، حملتها قدمًا المعاهد الإرساليّة المختلفة الحاضرة هنا والتي حظيت بتقدير السكان والسلطات المدنية. ومن ناحية أخرى، كانت الحكومة المنغولية قد طلبت مساعدة المرسلين الكاثوليك من أجل مواجهة حالات الطوارئ الاجتماعية العديدة في بلد كان في ذلك الوقت يمر بمرحلة حساسة من التحول السياسي، ويطبعه انتشار الفقر على نطاق واسع. واليوم أيضًا لا تزال هذه المشاريع ترى التزام مرسلين ومرسلات من بلدان عديدة، يضعون معرفتهم وخبرتهم ومواردهم ولاسيما محبّتهم في خدمة المجتمع المنغولي. إليهم، وإلى جميع الذين يدعمون أعمال الخير هذه، أعرب عن إعجابي و”شكري” العميق.
تابع الحبر الأعظم يقول يقدم “بيت الرحمة” نفسه كنقطة مرجعية للعديد من الأعمال الخيرية، كأياد ممدودة نحو الإخوة والأخوات الذين يكافحون من أجل التغلب على مشاكل الحياة. إنه بمثابة مرفأ يمكن فيه للأشخاص أن يجدوا الملاذ، وحيث يمكنهم أن يجدوا الإصغاء والفهم. ولكنَّ هذه المبادرة الجديدة، فيما تضاف إلى العديد من المبادرات الأخرى التي تعضدها مختلف المؤسسات الكاثوليكية، إلا أنها تمثل نسخة غير مسبوقة لها: هنا، في الواقع، نجد أنَّ الكنيسة الخاصة هي التي تمضي قدمًا بالعمل، بتآزر جميع المكونات الإرساليّة وإنما بهوية محلية واضحة، كتعبير حقيقي للنيابة الرسولية ككل. ويعجبني كثيرًا الاسم الذي أردتم أن تطلقوه عليه: “بيت الرحمة”. في هاتين الكلمتين، نجد تعريف الكنيسة، المدعوة لكي تكون بيتًا مضيافًا حيث يمكن لكل فرد أن يختبر محبة سامية، تحرك القلب وتجعله يتأثّر: المحبة الحنونة والمتنبّهة للآب، الذي يريدنا إخوة وأخوات في بيته. لذلك، آمل أن تتمكنوا جميعًا من أن تلتقوا حول هذا الاستيفاء، الذي تشارك فيه بشكل فعال مختلف الجماعات الرسولية، وتُلزم الأفراد والموارد.
ولكي يتحقق ذلك، أضاف البابا يقول لا غنى عن العمل التطوعي، أي الخدمة المجانية والمتجرّدة التي يقرر الأشخاص أن يقدّموها بحرية للذين يعيشون في عوز: لا على أساس تعويض مالي أو أي شكل من أشكال العائد الشخصي، وإنما من أجل محبة القريب الخالصة. هذا هو أسلوب الخدمة الذي علمنا إياه يسوع بقوله: “أخذتم مجانًا فمجانًا أعطوا”. إنَّ الخدمة بهذه الطريقة تبدو رهانًا خاسرًا، لكن عندما تضع نفسك على المحك، تكتشف أن ما تعطيه دون أن تنتظر شيئًا بالمقابل لا يضيع؛ لا بل يصبح غنى كبيرًا للذين يقدمون وقتهم وطاقتهم. إن المجانية، في الواقع، تُحرر النفس، وتشفي جراح القلب، وتقربنا من الله، وتفتح مصدر الفرح، وتبقينا شبابًا في داخلنا. في هذا البلد المليء بالشباب، يمكن لتكريس الذات للعمل التطوعي أن يكون وسيلة حاسمة للنمو الشخصي والاجتماعي.
ومن ثمَّ تابع الحبر الأعظم يقول هناك واقع أنَّه حتى في المجتمعات ذات التقنية العالية والتي تتمتع بمستوى معيشي مرتفع، وحده نظام الضمان الاجتماعي لا يكفي لتوفير جميع الخدمات للمواطنين، إذا لم يكن هناك بالإضافة له حشود من المتطوعين الذين يكرسون وقتهم وقدراتهم ومواردهم في سبيل محبة الآخر. إن التقدم الحقيقي للأمم، في الواقع، لا يقاس بالغنى الاقتصادي، ولا حتى بمدى استثمارها في القوة الوهمية للأسلحة، وإنما بالقدرة على توفير الصحة والتعليم والنمو المتكامل للناس. لذلك أريد أن أشجع جميع المواطنين المنغوليين، المعروفين بسخائهم وقدرتهم على إنكار الذات، على الالتزام في العمل التطوعي، واضعين أنفسهم في تصرّف الآخرين. هنا، في “بيت الرحمة”، لديكم “صالة ألعاب رياضية” مفتوحة على الدوام حيث يمكنكم أن تمارسوا رغباتكم في فعل الخير وأن تدرِّبوا قلوبكم.
أضاف الأب الأقدس يقول أريد أخيرًا، أن أُبدّد بعض “الأساطير”. أولاً، أسطورة أنَّ وحدهم الأثرياء يمكنهم أن يلتزموا في العمل التطوعي. لأن الواقع يقول عكس ذلك: ليس من الضروري أن تكون غنيًا لكي تصنع الخير، لا بل إن أبسط الأشخاص هم الذين يكرسون على الدوام تقريبًا وقتهم ومعرفتهم وقلبهم للاهتمام بالآخرين. هناك أسطورة ثانية يجب تبديدها: تلك التي تقول إن الكنيسة الكاثوليكية، التي تتميز في العالم بالتزامها الكبير في أعمال التعزيز الاجتماعي، تقوم بذلك من منطلق مرجعية ذاتية، كما لو أن العناية بالآخر هي شكل من أشكال الإقناع لكي تجذب الناس إلى صفّها. لا، إنَّ المسيحيون يعرفون المعوزين ويبذلون قصارى جهدهم لكي يخففوا من آلامهم لأنهم يرون هناك يسوع، ابن الله، وفيه الكرامة الهائلة لكل شخص مدعو ليكون ابنًا أو ابنة لله. يطيب لي أن أتخيّل “بيت الرحمة” مثل المكان الذي يوحّد فيه أشخاص من “معتقدات” مختلفة، وكذلك غير المؤمنين، جهودهم مع جهود الكاثوليك المحليين من أجل مساعدة العديد من الإخوة والأخوات في الإنسانية برأفة. ستعرف الدولة كيف تحمي ذلك وتعزّزه بشكل مناسب. ولكي يتحقق هذا الحلم، من الضروري في الواقع، هنا وفي أماكن أخرى، أن يعضد الذين يتحملون المسؤولية العامة هذه المبادرات الإنسانية، ويقدّموا دليلاً على تآزر فاضل من أجل الخير العام. وأخيرا، هناك أسطورة ثالثة يتعين علينا تبديدها: تلك الأسطورة التي بموجبها ما يهمُّ فقط هي الوسائل الاقتصادية، وكأن الطريقة الوحيدة لكي نعتني بالآخر تكمن في الاستعانة بموظفين يتقاضون رواتب والاستثمار في هيكليات ضخمة. لا شك أن الأعمال الخيرية تتطلب الاحترافية، ولكن لا ينبغي أن تتحوّل المبادرات الخيرية إلى أعمال تجارية، بل يجب أن تحافظ على نضارة أعمال المحبة، حيث يجد المحتاجون أشخاصاً قادرين على الإصغاء والتعاطف، دون أي تعويض.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول بمعنى آخر، لكي نصنع الخير حقًا، ما لا غنى عنه هو القلب الصالح، المصمِّم على أن يبحث عما هو الأفضل للآخر. إن الإلتزام فقط من أجل الأجر ليس حبًا حقيقيًا؛ وحده الحب ينتصر على الأنانية ويجعل العالم يسير قدمًا. وفي هذا الصدد، يطيب لي أن أختتم مذكرًا بحدث مرتبط بالقديسة تريزا دي كالكوتا. يبدو أن أحد الصحفيين، فيما كان ينظر إليها منحنية فوق جرح مريض كريه الرائحة، قال لها ذات مرة: “ما تفعلينه جميل جدًّا، لكنني شخصياً لن أفعل ذلك حتى مقابل مليون دولار”. ابتسمت الأم تيريزا وأجابت: “مقابل مليون دولار، لن افعل ذلك أنا أيضًا. أنا أفعل ذلك محبَّةً بالله!” أُصلّي لكي يكون أسلوب المجانية هذا القيمة المضافة لـ “بيت الرحمة”. من أجل كل الخير الذي قمتم به وستقومون به، أشكركم من كلِّ قلبي وأبارككم. ومن فضلكم، صلّوا أيضًا من أجلي.