غسان حجار
“لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا،
وهُوَ أَنْ يَبْذُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ في سَبِيلِ أَحِبَّائِهِ…”
(إنجيل يوحنا، الفصل 15، الآية 13)
كتبنا الكثير في جبران تويني، ودبَّجنا المقالات، وأقمنا احتفالات، وطبعنا الصور، وأعدنا نشر كتاباته، لا للاستعراض، ولا للتحدي، ولا للإبهار، ولا نكاية بأحد، خصوصا بأولئك الذين يعيّرون غيرهم بعدم تقدير الشهادة وقيمتها، فيما كانوا يوزّعون الحلوى لدى اغتيال جبران تويني وغيره من شهداء انتفاضة الاستقلال، والمشهد لا يزال ماثلاً أمامنا. فعلنا كثيراً لأجل إبقاء الذكرى حيّة، والفكرة ساطعة، والمشروع الوطني متوثباً وسط التحديات المستمرة لتغيير صورة البلد والقضاء على هويته، وفصله عن انتمائه الطبيعي، خصوصا بعد مضيّ أكثر من مئة سنة على ولادة لبنان الكبير، وثمانين سنة على الاستقلال، واستمرار البعض وإمعانهم في رفض الكيان وبحثهم تارة عن دولة اسلامية وتارة اخرى عن فيديرالية وتقسيم.
لا يهدف التذكير بالماضي الى نبش الذكريات المؤلمة، ولفتِ الانظار الى العيش المشترك المتكسر، أو إثارة الاحقاد، أو التحريض على أحد، بل للدعوة الى احترام القيم التي قام عليها لبنان الميثاق ولبنان الصيغة، إذ لا بديل منهما، (رغم الحاجة الملحّة الى اصلاح وترميم) عندها يمكن تقدير الشهادة، وكل الشهادات، خصوصا ان البلد لا يرتوي دماء، ولا يوفّر حيوات، وعبثاً يحقق النتائج المرجوة، لا لقلّة التضحيات التي تُبذل، بل لعدم تقدير جماعي وعدم تجاوب اجتماعي وعدم وعي وطني، لمشروع الانقاذ الذي بذل جبران تويني وآخرون أنفسهم من أجله.
ولعل الذكرى تدفعنا الى تأملات جديدة، انطلاقا من مبادئنا الوطنية، وعقيدتنا الايمانية، وخبراتنا المتراكمة بألم، وملاحظتنا تراجع الانتماء الوطني، بل سيادة التفكك والتباعد، والرغبة المتزايدة في الهجرة، خصوصا لدى الشباب، وتحديدا اصحاب الكفاءات منهم، إذ لم يعد البلد يلبّي طموحاتهم، ولا تطلعاتهم الى مستقبل آمن، ومتقدم وحضاري. ربما تساعدنا الذكرى في وعي الحقيقة الموجعة، فنعمل لإنقاذ ما بقي من الوطن الجريح، والمنهك، والمصاب بكل انواع الامراض والعاهات.
وفيما أنا غارق في التأملات التي تدفعني اليها ذكرى جبران تويني سنويا، اذ تستفيق الذكريات تلقائيا في هذا الموسم، تذكرت عظة للمطران بولس مطر، راعي ابرشية بيروت المارونية سابقا، ألقاها قبل نحو شهرين، في ذكرى اغتيال داني شمعون وعائلته، واستعرتها من دون استئذان، لأنها تختصر تماما ما أفكر به، أو ما دفعني المطران مطر الى التعمق فيه، وأيضا ما يجب التفكير فيه جماعياً.
ومما قال المطران مطر: “ندرك أن الشهادة هي عمل فداء يقوم به إنسان أو جماعة من أجل مصير أفضل لأحباب يبقون على قيد الحياة ويكملون المسيرة”.
أضاف: “الشهادة إذاً هي مشروع إنقاذ يقوم به الشهداء ويكمل على أيدي الباقين الأحياء وصولاً إلى الغاية المنشودة. فالشهداء لا يموتون لنحيا فحسب بل لنكمل الرسالة التي سطّروها بدمائهم ونكسب رهان الحياة لأجلنا ولأجلهم على السواء… لقد أعطى شهداؤنا للوطن كل شيء حتى الرمق الأخير، فهل كثير علينا أن نقدم باسمهم للوطن فرصة للعيش فيه كشعب واحد ترضى مكوناته ببعض التنازلات بغية خلق التوافق في الأعماق والانطلاق في عملية البناء من جديد؟… يكمن دور الشهداء في تحريك ضمائرنا ومحاسبة نفوسنا على أخطاء وقعنا فيها وخطايا ارتكبناها بحق لبنان ومثله العليا”.
إذاً هو عمل فداء كما يقول المطران مطر. والفداء لا يكون إلا من أجل الآخرين، تماما كما افتدى المسيح البشرية على الصليب. والفداء يتم من أجل آخرين أحياء، ومن أجل إكمال المسيرة في مشروع إنقاذ، ولنا ملء الثقة ان شهادة جبران وغيره، وآخرين ممن سقطوا ويسقطون، لا تتم من أجل رغبة في الموت، وعشق الموت في ذاته، لأنه حفل من الجنون، بل تتم الشهادة لتكون للآخرين الحياة، وتكون وافرة.
لكن المشكلة تكمن في المشروع الانقاذي الذي يراه كل فريق من جهته، ووفق حساباته، وطنياً، وهو ليس من الوطنية في شيء، اذ لا يمكن قياس الوطنية في رفض الشريك في الوطن والمجتمع والفرح والألم، ومحاولة التغلب عليه، والاستقواء بالخارج لتحقيق المكاسب الداخلية على حسابه.
ونردد السؤال الذي طرحه المطران مطر، لعلّه يحرك الضمائر: هل كثير علينا أن نقدم للوطن، باسم الشهداء، فرصة للعيش فيه كشعب واحد والانطلاق في عملية البناء من جديد؟
عندما نتفق على مشروع إنقاذ، نكون أوفياء لجبران ولكل الشهداء، لأننا من غير ذلك، سنبقى في دوامة الانتحار الجماعي.