بقلم د. ايلي مخول
الخط الرفيع والخط السميك … فن رائع. توازن دقيق لانزلاق الريشة لدى ملامستها القِرطاس حيث يتم الانتقال من الشفهي إلى الكتابي بشكل لا يُفسَّر. هذا التمرّن يخاطب ذكرياتنا، ويوقظ فينا روح الطفولة. كيف لنا أن ننسى تلك الحركات المحمومة، عند رسمنا الحروف الأولى من الأبجدية، على دفاترنا المدرسية، وتلك التمارين التي كنا نكرر فيها تشكيلاتنا، حرفًا بعد حرف، وكلمة بعد كلمة، مع الحرص على عدم الخروج عن الإطار المحدّد بالأسطر والمربعات؟ آه من تلك الهمزة اللعينة التي اختلط الأمر بشأنها أينما حلّت! فلكَم جرّت عليّ العديد من عمليات الشطب بالحبر الأحمر… إني على قناعة بأن كُلاّ منكم ومنكن يتذكر بعض اللحظات البارزة في تلك البداية المحفوفة بالمخاطر. هل كنا أصلاً على وعي بالقوة المذهلة التي تم نقلها إلينا؟ قوة الإبداع، والسرد، وإنعاش الكائنات والأشياء، وإحياء الموتى، والسفر في المكان والزمان، واختراع العالم من جديد، والتعبير بحرية… ناهيك عن الممارسات اليومية، التي تبدو للوهلة الأولى غير مؤذية، والتي ثوّرت أنشطتنا وطريقتنا في التواصل. حقل من الإمكانيات بأفاق لا حدود لها، مشتركة بشكل غير متكافئ، ورثناها منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام على الأقل… العودة إلى جذور الكتابة تعني اكتشاف التفرعات غير المشكوك في صحتها ومُهود (ج. مَهْد) متعددة تتجاوز حدود بلاد ما بين النهرين ونشوء أولى المدن المستقلة إداريا. وتقع كل من مصر والصين وأميركا في قلب هذه الرحلة المغامَرة.
نكتب ولكن لأي غرض؟
تكشف الكتابات الأولى عن سمات مشتركة حتى لو لم يكن هناك صلة بينها. مثل التمخض عن نصوص خاصة بنشوء العالم أو إخرى قانونية.
الكتابة هي نتاج الثقافة، بعكس اللغة المحكية، التي ليست كذلك. فهذه جزء متميز من بنية دماغنا البيولوجية.
يتعلق الأمر بخبرة عملية مركّبة تتطور تلقائيًا عند الأطفال وهي ذاتها نوعيا لدى جميع الأفراد. في المقابل، الكتابة هي نتاج عمل من صنع الإنسان له أهمية ثقافية أو تاريخية. ويبدو أن اختراعه يمثل واقعا ثقافيا عظيما. ويدل الجهد المبذول في إنشائها على أننا أمام إحدى المغامرات الفكرية الكبرى في تاريخ البشرية، والتي قادت الإنسان إلى التفكير مليّا بكلمات لغته ومفردات لغات الآخرين.
ثمة نوعان من التمثيل الرسمي (المختص بالرسم والتصوير): أحدهما لا يحتاج إلى مبرر لغوي، والآخر ملتصق باللغة. الكتابة تنتمي إلى الثاني، حبث تقع عند تقاطع هذين المستويين من النشاط المعرفي، وهما الصورة والكلام. هي تتعلق إذن بصورة نهائية بالألسنية (علم اللغات) وعلم الدلالة (يهتم بدراسة المعاني)، وتتميز عن سائر أشكال التعبير البصري.
الدليل في أربعة أصول
تشكّل الكتابة نظامًا مختلطًا عندما تستخدم صورا لفظية (علامات تعبّر عن كلمة أو أكثر) وصورا صوتية أو مقاطعية (علامات يتمثل فيها كل مقطع لفظيًا بحرف أو أكثر). تم اختراع الكتابة الأبجدية مرة واحدة على يد الكنعانيين، على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، خلال القرن الأول من الألفية الثانية قبل الميلاد. وجرى ابتكارها بأشكال أخرى أربع مرات في أزمنة وأماكن وبيئات اجتماعية مختلفة. يقول جان جاك غلاسنر المؤرخ الفرنسي المولود عام 1944 في بيشفايلر (الألزاس)، المتخصص في عالم بلاد ما بين النهرين والكتابة المسمارية، حسب علمنا بالموضوع فإن أقدم كتابة ترقى إلى القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد في سومر الواقعة في بلاد الرافدين جنوبي بغداد. تبعتها مصر بعد قرن من الزمان. ولم يأت دور الصين إلا في القرن الثالث عشر ق. م. وسكان يوكاتان في الوقت نفسه تقريبًا، وربما قبل ذلك بقليل. في الحالة الأخيرة، كان هذا من عمل شعب الأولمك، حيث تم استخدامها بسرعة كبيرة، وفي وقت واحد، بين شعب المايا، والمتحدثين بالأولمك والزابوتيك.
إن السؤال الذي يطرح نفسه إذن هو الأسباب التي دفعت أربع مجموعات سكانية مختلفة، منتشرة حول العالم، إلى اختراع مثل هذه الأداة. وبما أن معرفتنا محدودة فيما يتعلق بالاستخدامات الأولى للكتابة، فقد اقتصرنا على صياغة فرضيات. هناك إجابة تبدو مؤكدة: لقد بدأت الكتابة بتعزيز نفوذ النخب.
في حالة يوكاتان، وهي الأسوأ من حيث التوثيق، فإن أول الركائز المنقوشة هي مِسلاّت حُفرت عليها تقاويم. كانت هذه تعكس رغبة الشركاء في التحكم بالوقت، وهو موقف تشاطره تماما النخب السياسية، ما سمح لهم باستباق أفعالهم وتنظيم العمل والإنتاج داخل المجتمع. كذلك في الصين، حيث المصادر شحيحة أيضًا، فقد كانت الكتابة جزءا من الطقوس التي حرصت على وصفها بدقة. واحتلت العرافة مكانًا مهمًا هناك.
مصر أفضل توثيقا من المنطقتين السابقتين. تبرز المظاهر الأولى للكتابة عدة نقاط. فقد اقتصرت (الكتابة) على بيانات الملكية على ملصقات، وكان الغرض منها تحديد المَلك، من خلال تسميته، وكبار الشخصيات، والدول الخاضعة أو المعاقل، ولكن أيضًا قادة العدو المهزومين؛ كما تم استخدامها لإحصاء الغنائم والأسرى ومعرفة المنتجات المستخدمة أثناء طقوس جنائزية. باختصار، لم تصوّر الكتابة بعد قوة الفرعون ، بل سلطة قادة محليين تتجاوز نفوذ مدينة واحدة. بيد أن تلك الكتابات لم تتعلق بإدارة منطقة نفوذ، بل بعلامات الاستيلاء، وتأكيد ملكية قوة بارزة. كما استبعدت أولئك الذين لم يتم تسميتهم، والذين لم يمتلكوا هذه الخيرات أو لم ينبثقوا عنها مباشرة.
في بلاد ما بين النهرين، وبناء على طلب النخب السياسية والاجتماعية، بدأ العلماء العمل على إنشاء مدوّنة من العلامات القادرة على تدوين رسائل اللغة الشفهية. كانت العلامات التي اخترعوها مختلطة، وتعبّر عن عدة كلمات و/أو أصوات. ولم يكن هناك معنى مرجعي واحد، فكل القيم لها المكانة عينها. والتعايش فيما بينها كان يتم من خلال التواجد معا. وبذلك، أنشأوا أداة لإنتاج نصوص ذات طابع قانوني واقتصادي وإداري. وجرى استخدامها أيضًا لتدوين نصوص علمية، مثل النصوص المعجمية، وبعبارة أخرى قوائم مفردات لتصنيف الوقائع – أداة هيمنة تتيح للإنسان السيطرة على الأمور.
لكن هناك المزيد. لقد ذكرت للتو الطابع المتعدد المعاني للرموز الكتابية. مثلا: علامة تحمل القيم الثلاث لِيل، “هبوب/ روح”، طفل، “حصيرة من القصب”، إ، “معبد”. ما هي الروابط التي يمكن أن تجمع بين هذه الكلمات الثلاث؟ ولكن ماذا تعني كلمة “ليل”؟ ظهرت الكلمة باسم الإله إنليل “سيد النفس/الروح”. في الأدب السومري في الألفية الثالثة، استخدم المؤلفون استعارة المنسوجات للثناء على الرابطة الأمومية والرابطة الزوجية. زوج المستقبل الذي قدم عروسه لأمه أو جمعهما كان يسمى “ليل“. تم وضعه بشكل رمزي عند تقاطع خيط اللحمة وخيط السداة على النول. نرى في هذه الاستعارة مسرحية شعرية للزواج.
إنشاء العالم
في حالة إنليل، أخذت الأمور منحى مختلفا. فللفصل بين والديه، استخدم صناعة السلال، التي تشبه تقنيتها تقنية النسيج. إستبعد قضيبين من القصب متوازيين مع بعضهما البعض بحيث أقام مساحة مكنته من إدخال قضيب ثالث عمودي على الأولين. بصفته ليل وقف عند تقاطع هذه السيقان ومن خلال إنشاء مساحة فارغة، إستطاع الخروج من الجسد الأمومي وبلوغ إلى الحياة. ثم صنع حصيرة من قصب، طفلًا بنى عليها معبدًا، ي، قُدْوات مسبقة للكون.
فيما يلي القيم الثلاث لعلامتنا مجتمعة. الكلمات الجوهرية الثلاث (أو مفاتيح الشِّفرة) في الأسطورة السومرية حول تأسيس العالم على يد الإله إنليل كانت متحدة في حرف واحد! وقد شكل هذا، من خلال الكشف عن الكلمات الرئيسة لأسطورة تأسيس الكون، “شظيّة لغوية” (على حد وصف فلورانس دوبون، المولودة عام 1943 في بايو. هي عالمة في اللاتينية واللغة والأدب اليونانيين وجامعية فرنسية. أستاذة فخرية للأدب اللاتيني في جامعة باريس ديدرو، ومؤلفة العديد من الأعمال التي لا تتناول العصور القديمة الكلاسيكية، بل ما يتعلق بالمسرح أو الأدب بشكل عام). كما أظهر من خلال اختيار الكلمات أساسيات المعرفة التي تشكل هوية المجتمع الإنساني وترسيخ وحدته. نحن بعيدون كل البعد عن فكرة اختراع الكتابة السومرية المنتشرة لأغراض المحاسبة! لم يتم اختراع الكتابة لحل المسائل المحاسبية أو الإدارية العادية؛ ولم تظهر إلا في هذا الإطار لأنها كانت موجودة بالفعل.
في سومر، نفوذ العلماء الخارق
إن فن الكتابة يجعل من العلماء الذين يمتلكونه و يدرّسونه نخبة اجتماعية وسياسية.
إقتضى المدخل إلى الكتابة بأن يكون المتعاطين بها قد ارتادوا المدرسة، حيث تعلموا استخدام لغة مكتوبة تختلف عن اللغة المحكية. ولأن المخترعين أدركوا توّا أن مشروعهم لا قيمة له ما لم يتم نقله في الحال، وبينما كانوا ينتجون مجموعة الحروف الخاصة بهم، عملوا على إنشاء شبكات لضمان نشرها ونقلها.هكذا أنشأوا المدارس. كانت هذه قائمة في منازلهم. على الألواح العلمية (باستثناء أقراص الإدارة)، مدوّنات، هذه المقاطع النصّية التي توفر معلومات عن المحتوى، والناسخ، ومالك اللوحة، والمكتبات السابقة للمالك، اسم الناشر والغلاف الخلفي، وردت أسماء أو ألقاب أبرز أعضاء النخب الاجتماعية والسياسية. هم يبينون أنهم أصحابها أو مؤتمَنون عليها، وأنها برأيهم، رسوم بيانية وأن حيازتهم لها علامة مميّزة، يتباهون في إظهارها. مستخدمو الكتابة الأوائل أشاروا إلى أنفسهم بالمصطلح السومري أومبيساغ، أو دُوب. أومبيساغ، “العالِم” أو “العالِم ذو اللوح”. لقد كانوا علماء في التقليد الشفهي، يعرفون بشكل خاص جميع الطقوس الاجتماعية، وأضافوا إلى مهاراتهم فن الكتابة. عرفوا أيضًا كيفية العدّ! كان لهم حضورهم في جميع المهن. بعد بضعة قرون فقط، وفي القرن السابع والعشرين، ظهر الناسخ المحترف؛ كان يحمل لقب دوبسار، “الشخص الذي يركض بسرعة وبشكل مستقيم على لوح”، وهو مصطلح جديد تم اختراعه للظروف. كان تقني في الكتابة. إلاّ أنه لم يكن لديه بالضرورة نفس العلاقات مع المجتمع مثل جماعة الأومبيساغ.