بقلم د. ايلي مخول
أمَلت دول المحور وزبانيتها في توحيد القارة الأوروبية بأكملها أو بالأحرى إخضاعها. مشروع سيؤدي لحسن الحظ بطريقة أقل كابوسية إلى واقع مختلف تمامًا.
إليكم ما قيل لجورج هنري سوتو، مؤلف كتاب أوروبا! المشاريع الأوروبية لألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية: “سيكون هذا الكتاب خطيرًا. وقد يترك أثرا سلبيّا على تصور البناء الأوروبي الحالي”. في الواقع، يسلط المؤرخ الضوء على ديمومة الفكرة الأوروبية بين الحربين أولاً، ثم في قلب البلاغة ومشروع الرايخ الثالث: إنه موضوع “أوروبا الجديدة”، ” الفضاء الاقتصادي الكبير” من المحيط الأطلسي إلى فلاديفوستوك”، و”الوحدة النقدية ” أيضًا، التي تُلحق العملات الوطنية بدءًا من الفرنك بفلك المارك الألماني، والمضي ب”المشروع الأوروبي الأفريقي” الذي يضم إسبانيا، أو “النظام الأوروبي الجديد” الذي تلفّظته قوات الأمن الخاصة (وحدات إس إس) بأعلى صوتها.
مثل كل مشاريع هتلر الأكثر أهمية، فإن إعادة تشكيل القارة هي برنامج غامض ومموّه – كلمة أوروبا لا تظهر في كفاحي (Mein Kampf) – جرى، من أجل تحقيقه، حشد صنّاع القرار من جميع البنى التي تشكل الدولة الشمولية، من إداريين وتكنوقراط، وإيديولوجيين: هنا أيضًا، يعدّ أدولف هتلر شرطا ضروريا، ولكنه ليس كافيًا. علاوة على ذلك، نجد أيضًا في هذا المجال الجوانب العملية والتراكمية، بالإضافة إلى الجوانب الأيديولوجية والسياسية، لاستراتيجية الرايخ الثالث: بمجرد احتلال أوروبا بأكملها تقريبًا، يجب أن نسأل أنفسنا عمّا سنفعل بها. من وجهة النظر هذه، فإن الانتصار على فرنسا يشكل فاصلة أساسيًة. لكن لم يكن كل شيء مرتجلًا خلال الحرب، بل على العكس من ذلك، ويؤكد جورج هنري سوتو أن موضوع أوروبا أصبح حاضرًا أكثر فأكثر في خطابات الزعيم في الألعاب الأولمبية لعام 1936 حيث دوّى نشيد الفرح. منذ تموز 1941، تمحورت المُحاجّة حول موضوع التضامن ضد البلشفية؛ بعد ستالينغراد، حملت الحاجة إلى حماية نفسها ضد الأنغلوسكسونيين المستعدين للتخلي عن القارة لصالح موسكو. ومن ناحية أخرى، في إيطاليا الفاشية، كان موضوع أوروبا – علينا أن نفهم كياناً أوروبياً متوسطياً متكاملاً مع الصومال وليبيا وإثيوبيا – حاضراً منذ عام 1929، وقد تطور في رؤية أوروبية منحرفة تصوّر الفاشية كنموذج لحضارة القارة. منذ 1939، عندما ظهر بشكل متزايد أن “الفاشية الأوروبية” كانت تهدف إلى إفادة “الرايخ والنازية” قبل كل شيء، تخلى موسوليني عن الجانب الحضاري للتركيز على تنظيم إمبراطوريته.
فيما يتعلق بأوروبا، كما بغيرها، لم يأت موسوليني ولا هتلر بجديد، بل اقترحا توليفة من تيارات مختلفة تراوحت بين القرن التاسع عشر وفترة ما بين الحربين العالميتين، وبرنامج عمل حسب المقتضى. تشترك برلين وروما في رغبتهما في تدمير نظام فرساي واستبداله بـ “عدالة اجتماعية وسياسية” جديدة لصالحهما: “منطقة اقتصادية أوروبية كبرى” مكتفية ذاتيًا تحل محل الليبرالية المعولمة الناتجة عن القرن التاسع عشر وروما. لقد تم تنظيمها انطلاقاً من مبدأ “الاقتصاد الموجه”، وصولاً إلى الاتحاد النقدي في نهاية المطاف. ويظهر أيضًا بين الإيطاليين والألمان، في دوامة من المشاريع الطموحة بشكل متزايد، رغم أنها أقل جدوى، كعنصر اجتماعي من خلال موضوعات “النقابوية” أو “الاشتراكية الأوروبية”. يتطلب هذا “النظام الجديد”، الذي تم إعداده بشكل نشط اعتبارًا من تموز 1940، سحق الاتحاد السوفييتي – إذا كان ذلك ممكنًا قبل عام 1942 نظرًا للصعوبات اللوجستية الهائلة – مع التوصل إلى اتفاق مع إيطاليا واستخدام فرنسا للسيطرة على الشرق الأوسط وأفريقيا. في الواقع، إلى جانب النتائج الاقتصادية المتواضعة لأوروبا المحتلة والتي يكافح الرايخ الثالث من أجل تشغيلها، فإن مشكلة برلين الكبرى في الحفاظ على هيمنتها على أوروبا هي نقص النفط (بالإضافة إلى الفحم والمواد الغذائية…): أنتج الرايخ 8 ملايين طن سنويًا بينما تلقت بريطانيا العظمى 20 مليون طن عام 1944. وهنا أيضًا، أدى فشل عملية بربروسا التي أطلقها هتلر إلى تقويض أسس كل هذه المشاريع الأوروبية.
تلك الخطة العامة لأوروبا “النازية الفاشية” – لأنه على الرغم من الخلافات، فإن التعاون والتفاهم في المنطقة الأورومتوسطية أمر أساس بين النظامين – لم تطبَّق في نهاية المطاف، بطبيعة الحال، بل خضعت لتجارب عرضية، من خلال المسارات الفردية أو الإصلاحات الجزئية. فضلاً عن ذلك تم تنفيذ الهدفين اللذين لم يتخلّ عنهما هتلر قط ـ إبادة اليهود وسحق البلشفية ـ على نطاق أوروبي: فقد كانا الشرط الأساس لأوروبا المكتفية ذاتياً، والموحدة اقتصادياً، والآرية ثقافياً، وبالتالي المتفوقة. علاوة على ذلك، يتعين على أوروبا وفقاً لهتلر أن توفر القاعدة الاقتصادية والاستراتيجية ــ ومن ثم ربما الأوروبية الأفريقية ــ والجيوسياسية في خدمة الرايخ الجرماني كأمة ألمانية. ولكن وراء الإجماع الواسع النطاق إلى حد ما في أوروبا – دعونا لا ننسى- كشفت الحاجة إلى حماية النفس من التهديد البلشفي والليبرالي المزدوج، عن خطوط صدع عديدة: برنامج برلين الأوروبي العنصري وبرنامج أوروبا الإمبراطورية من روما في البداية، خطط أوروبا الوسطى القديمة للمحافظين الألمان، ومشروع الثورة الاشتراكية الفاشية لـقوات الأمن الخاصة النازية S.A، والرغبة في الحفاظ على الروابط مع العالم الأنغلوسكسوني للصناعيين الإيطاليين الكبار الذين يعتبرون أن إيطاليا لا تملك الوسائل اللازمة لعزل نفسها عن العالم، أي القوى الليبرالية. ومن أجل عدم إستعداء أي مجموعة، ظلّت الدعاية حول “النظام الأوروبي الجديد” سرّية. غير أن هذا “النظام الجديد في أوروبا” أثار حماسة مبكرة لدى ممثلي البلدان المحتلة أو الخاضعة… عندما لم يتم استباقه! من خلال التطورات، كل منها أكثر إثارة من سابقتها، يكتشف القارئ، بالمعنى الحرفي والمجازي، قارة غير مقدّرة في تاريخ الحرب العالمية الثانية، قارة أوروبا التي تصورها الشمولية الفاشية. دعونا نسلط الضوء بشكل خاص على التطورات الأساسية والمبتكرة حول “البنى الذهنية لأوروبا الجديدة” الذي يحلل الشبكات الأوروبية للتعاون الأيديولوجي والثقافي، ولكن أيضًا على فيشي وأحلام انضمام فرنسا إلى “أوروبا جديدة” “النظام” الناتج عن انتصار ألمانيا وحيث سيتم تهميش الاتحاد السوفييتي: هذا ما يسميه دارلان “لعب دور مشرف – إن لم يكن مهمًا – في أوروبا المستقبلية”. ومع ذلك، فإن هذه الإستراتيجية، التي تم تسليط الضوء عليها من خلال عملية بربروسا، لها فوارق تكتيكية دقيقة ترتهن بالمكونات والمراحل المختلفة للدولة الفرنسية. أخيرًا، يقدم لنا المؤلف بالمقابل، صفحات مثمرة عن مشاريع المقاومة الألمانية و… “الأوروبية” على مستوى القارة.
نحن كقراء ممتنّون لجورج هنري سوتو لأنه تولى جمع مثل هذا الكم الهائل من المحفوظات على مستوى القارة، ولأنه قارب هكذا دراسات وتقارير ومخططات رهيبة، ليقدم لنا هذا الكتاب المُتقَن.