
لم تكن زيارة البابا إلى لبنان حدثًا عابرًا، بل لحظة مفصلية أعادت إلى الواجهة صورة هذا البلد كمساحة لقاء رغم جراحه، وكمنبر حوار رغم أزماته. ثلاثة أيام فقط بدت كافية لكي يتذكّر اللبنانيون شيئًا من هويتهم الضائعة، وأن يسمعوا صوتًا خارجيًا يعيد إليهم الثقة بأن بلدهم ما زال قادرًا أن يقف، وأن يجتمع، وأن يصلّي.
استقبال تحت المطر… لبنان ينتظر ضيفه مهما تبدّلت الظروف
منذ لحظة وصوله إلى مطار بيروت، تميّزت الزيارة بطابعها الاستثنائي. مراسم الاستقبال الرسمية جاءت دقيقة ورصينة، لكنّ العنصر الأكثر تأثيرًا كان مشهد الناس الذين تحدّوا الطقس الماطر والمشحون بالبرد للمشاركة في لحظة اعتبرها كثيرون «نافذة أمل.» فالمطر الذي هطل على مدرج المطار وفي طريق القصر الجمهوري بدا كأنه يشهد على جيل جديد ينتظر من يطمئنه، ومن يذكّره بأن بلده يستحق الحياة.
وفي بعبدا، اكتمل المشهد بصورة لم يتوقعها أحد: زغاريد، دبكة، عائلات جلبت أطفالها رغم الظروف الجوية، وجموع وقفت لساعات لتلّوح للموكب. كان ذلك أكثر من مجرّد استقبال رسمي؛ كان احتفالًا نادرًا بوحدة شعورية افتقدها اللبنانيون منذ سنوات.
إلى عنايا… حيث يلتقي البابا بالقديس شربل وبإيمان اللبنانيين
لم تتأثر محطة البابا التالية بالبرد القارس ولا بالطرقات المبتلة. إلى عنايا توجّه، حيث ضريح القديس شربل، أحد أكثر المقامات الروحية حضورًا في الوعي اللبناني. هناك، بدا الصمت أبلغ من الكلام. الباحة التي امتلأت منذ ساعات الفجر بالمؤمنين أعادت تأكيد حقيقة ثابتة: أن الإيمان في لبنان ليس تفصيلًا ثانويًا، بل عنصرًا أساسيًا في صموده.
ركع البابا أمام الضريح، وبدا وكأنه يقرأ في تاريخ هذا المكان شيئًا من قصة اللبنانيين أنفسهم: وجعٌ لا ينتهي، وصلابة لا تُكسر. كثيرون ممن حضروا رووا كيف شعروا بأن الزيارة إلى عنايا تحمل قيمة خاصة، كأن البابا اختار أن يلتقي الشعب حيث يلتقي الشعب بصلواته.
اللقاء الحاشد مع الشبيبة… فسحة مستقبل وسط الضباب
إحدى أكثر محطات الزيارة ديناميكية كانت لقاء البابا مع الشبيبة اللبنانية. أكثر من 15 ألف شاب وشابة احتشدوا في المكان، لكنّ المفاجأة كانت في خطوة البابا غير المتوقعة: تجوله بين الحشود من دون أي حاجز زجاجي. هذه اللحظة وحدها كادت تختصر مفهوم اللقاء. لقد بدا البابا، في تلك الدقائق، قريبًا إلى درجة أن الشبيبة رأوا فيه ليس فقط قائدًا دينيًا، بل مرشدًا يفهم مخاوفهم وهم يعيشون في بلد يهاجر شبابه أكثر مما يحتضنهم. وبادلهم البابا تلك المشاعر عبر كلام مباشر عن الرجاء، الحوار، وإعادة بناء المستقبل على أسس مشتركة.
دير الصليب… مصافحة أعادت الحياة إلى الوجوه
في دير الصليب ومستشفى الأمراض النفسية الملحق به، حملت الزيارة طابعًا شديد الإنسانية. لقاء البابا المرضى، وخصوصًا معاناتهم الصامتة، شكّل لحظة مؤثرة ظهرت ملامحها على وجوه الطاقم والراهبات.
مصافحة البابا لاوون الرابع عشر للمرضى واحدًا واحدًا زرعت ابتسامات صادقة، وكأنّ هذا الحضور الروحي الكبير أعاد إليهم بعضًا من الشعور بأنهم مرئيون، وأن آلامهم ليست مهمّشة. كثيرون وصفوا تلك اللحظة بأنها قلب الزيارة، لأنها جمعت بين الرحمة والفعل، بين الرمزية والواقع اليومي.
صلاة في مرفأ بيروت…ودمعة مشتركة
محطّة المرفأ بدت الأكثر حساسية ورمزية. المكان الذي هزّ العالم في الرابع من آب، وقف فيه البابا في صلاة صامتة إلى جانب أهالي الشهداء والجرحى. لم تكن هناك كلمات كثيرة، لأن الصمت -في هذا المكان تحديدًا- بدا أبلغ من كل شيء. عيون الأهالي حملت دموعًا قديمة، والبابا حمل معهم ثقل اللحظة. كانت تلك الصلاة بمثابة اعتراف عالمي جديد بالجرح، ووقوف إلى جانب من فقدوا أبناءهم وبيوتهم وأحلامهم.
قداس حاشد في وسط بيروت… مشهد لبناني نادر
في اليوم الأخير، كان القداس الإلهي الذي جمع أكثر من 150 ألف مشارك بمثابة تتويج للزيارة. عشرات آلاف العائلات، الشبيبة، رجال الدين من مختلف الطوائف، ومسؤولون حضروا في مكان واحد، في صورة نادرة تذكّر بأن لبنان ما زال قادرًا على أن يجتمع تحت عنوان واحد حين تتوفّر اللحظة المناسبة. كان القداس أكثر من احتفال ديني؛ بل مساحة لإعادة اكتشاف ما يجمع اللبنانيين في وطن لا يزال يبحث عن توازنه.
رسائل السلام… 28 مرة وأكثر
على مدى الأيام الثلاثة، كرّر بابا روما كلمة “السلام” أكثر من 28 مرة في عظاته وخطاباته، في مؤشر واضح على محور الزيارة. شدّد على أن السلام ليس شعارًا بل مسارًا، وأن الحوار بين الأديان هو الشرط الأول لأي حلّ مستدام. وتُوّج هذا التوجّه في لقاء ساحة الشهداء الذي جمع ممثلين عن كل الطوائف، في مشهد أراده البابا ترجمة فعلية لفكرته عن لبنان: بلد يعيش برسالته، لا بتوتراته.
قد لا تغيّر الزيارة الواقع السياسي المعقّد فورًا، لكنّها أعادت للبنانيين شيئًا افتقدوه منذ سنوات: لحظة مشتركة، شعورًا بأن العالم لا يزال يرى فيهم جمالًا ما، وأن بلدهم – رغم الانهيار- لم يفقد مكانته الروحية والإنسانية.
ثلاثة أيام فقط، لكنها كانت كافية ليشعر اللبنانيون بأن أبواب الأمل لا تزال مفتوحة، وأن السلام ليس حلمًا بعيدًا، بل مشروعًا ممكنًا إذا ما توفّرت الإرادة.
إيلي أبو رجيلي


الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة- لبنان اوسيب – لبنان