{mosimage}يترك وزير الإعلام اللبناني طارق متري طاولة اللقاء، يتوجه سريعاً نحو رفوف مكتبه التي استوى فيها عدد من الكتب والملفات. ينتقي مجموعة من الوثائق والدراسات. يحملها ويسأل: «هل ترين كل هذا؟ هذه مقترحات شركة استشارية قدمت خدماتها مجاناً لمسح حاجات «تلفزيون لبنان»،
ثم أجريت شخصياً حوالى أربعين مقابلة مع أناس عملوا في التلفزيون ماضياً وحاضراً، بعدها حاولت أن أجمع كل ما سبق بخطة تلائم تصوري للتلفزيون. لخصتها في ست صفحات وفيلم مدته ثماني دقائق كي تعرض على مجلس الوزراء».
الخطة المنتظرة لنهوض تلفزيون يعاني منذ زمن هي المحور الأساسي للقاء وزير الإعلام، ولو أن الملفات الإعلامية تتشابك هنا. ففي الأشهر القليلة المنصرمة، برز اسم متري بشكل خاص مع «حدثين»: الضجة التي أثيرت حول ميثاق الشرف الإعلامي، ثم إعلان الاتفاق على نظام مستخدمي «تلفزيون لبنان»، والحديث عن خطة واقعية للنهوض به.
ارتياح… ولكن
قبل الغوص في خطة تطوير التلفزيون، يعود الحديث مع متري إلى منتصف الشهر المنصرم عندما أقر نظام المستخدمين الخاص بـ«تلفزيون لبنان» ما أشاع جواً من الارتياح بعد طول توتر بين الادارة ونقابة الموظفين. عقب الوصول إلى اتفاق، أشادت النقابة بأداء متري على اعتبار انه دفع باتجاه تحصيل الموظفين لحقوقهم البديهية كتحديد ساعات عملهم وعطلهم وإجازاتهم وغيرها. لكن المطلعين على القانون أشاروا إلى أكثر من «فخ»، قد ينفجر في وجه الإدارة المقبلة، تحديداً لجهة صعوبة، إن لم نقل استحالة، التوظيف، على اعتبار أن المادة الرابعة منه تؤكد أنه لا يجوز الاستخدام إلا في حال رُصد للوظيفة اعتماد خاص في موازنة الشركة. فما موقف الوزير الذي كان «عرّاب» الاتفاق؟: «أول مرة أسمع هذا الاعتراض، مع انني أمضيت شهرين في التفاوض». يرى الوزير ان تعاطي الموظفين مع «تلفزيون لبنان» تحكمه ما يشبه الثقافتين: «ثقافة المؤسسة العامة، بمعنى أن الموظفين يتصرفون أحياناً كما لو أنهم يعملون في مؤسسة من مؤسسات الدولة، وثقافة أخرى تقول انه شركة خاصة. والحقيقة أن «تلفزيون لبنان» هو شركة خاصة ذات رأسمال عام، تملكه الدولة، وأنا كوزير الإعلام ممثل للدولة، أي الجهة المالكة».
هذا التوصيف لا يلغي انه بعد ان أقر النظام، برز تخوّف آخر (انظر «صوت صورة» في 28 شباط المنصرم) يتعلق بالصلاحيات الواسعة التي أعطيت لمجلس الإدارة كالتوظيف والترقيات وغيرها، فلماذا لم يتدخل الوزير لتعديل كفة الميزان؟ يجيب متري: «مرة جديدة لا أعرف مصدر هذه الاعتراضات. رحبت النقابة بالنظام، وكنت منذ مدة مدعواً من قبلها للاحتفال بهذا الانجاز. ما حدث هو تسوية بين ثقافتين، لقد حاولت ان أجسّر هذه الفجوة، لعبت دور الوسيط النزيه بين طرفين غاب الحوار والثقة بينهما. لم استخدم سلطة قانونية بل حاولت استخدام سلطة معنوية. استمعت كثيراً وكونت قناعات، ثم قمنا بإدخال تعديلات على مسودة الاتفاق وافق الجميع عليها». برغم الارتياح للنتيجة يقرّ متري ان «النظام غير مثالي مئة في المئة لكنه قابل للتعديل. سبق وقلت للموظفين انهم يصرون على النظام كما لو أنه باق إلى أبد الآبدين. أعود وأقول لهم ان هذا النظام موقت لأن هذه الشركة يمكن ان تدار بطرق مختلفة ونظام المستخدمين يتغير أيضاً». يذهب متري أبعد من هذه النقطة ليشرح «أنه في أي مؤسسة، بمعزل عن القانون الإداري اللبناني، عادة ما يعنى مجلس الإدارة بالقضايا الكبيرة الاستراتيجية المتعلقة بالشركة، كتعزيز قدراتها وعلاقاتها الخارجية والوظيفة التي عليها تأديتها، أما المدير العام والمديرون فهم من يديرون تفاصيل العمل في التلفزيون، وليس من واجبات مجلس الإدارة أن يبحث زيادة مئتي ألف ليرة مثلاً لهذا الموظف أو ذاك».
خطة…بانتظار الموافقة
تحضر «التورية» عند سؤال متري، المعارض للخصخصة، عن فكرته حول «تلفزيون لبنان»: «التلفزيون بوضعه الحالي ليس على مستوى الاستجابة لتوصيف التلفزيون العام، ولا يملك لا الإمكانات المادية ولا البشرية ولا التقنية ولا الإدارية. والنهوض به نهوض على كافة الصعد مع تأمين موازنة كبيرة نسعى إليها ». ويكمل: «عندما يأتي الوقت المناسب في مجلس الوزراء أستطيع ان أعرض الخطة التي حضرتها للنهوض بالتلفزيون، المشروع دقيق وواقعي وغير حالم، وان أقر يبدأ الجد». لكن متى يحل «الوقت المناسب» هذا؟: «لا أستطيع ان أحدد. أنا وزير ضمن ثلاثين وزيراً في الحكومة. تكلمت مع رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية «ع قد ما في إيدي الاثنتين أصابع» وأنا جاهز منذ شهرين بانتظار طرح الموضوع. ما لا أريده هو أن أقوم بعرض ثم يصفق الحاضرون وعندما اطلب الموازنة أو تغييرات أقابل برد سلبي».
بالنسبة إلى متري، فإن خطة التغيير تشمل أكثر من شق: تقني، بشري، مالي وإدراي. لكنه يشدد على ان عمادها يتعلق بمدماكين أساسيين: «شخصية التلفزيون ومداخيله». فما هي شخصية التلفزيون بحسب التصور الذي سيطرح على مجلس الوزراء؟: «تلفزيون لبنان هو تلفزيون عام وليس تلفزيوناً رسمياً. لبنان لا يحتاج إلى تلفزيون يدافع عن الحكومة، أو ينقل أخبار الرسميين. بل يجب أن يتمتع «تلفزيون لبنان» باستقلال تام عن القوى السياسية وأن يكون لكل الطوائف والمذاهب». يشير متري إلى ان المخطط يجعل التلفزيون «متحرراً نسبياً من ضغط الربحية والقدرة على جذب المعلن»، مشددا علىً ان التحرر هذا نسبي وليس مطلقاً: «هناك أبعاد ثقافية تربوية علمية وثائقية مناطقية واغترابية، عليها ان تكون جزءاً من شخصيته بقطع النظر عن الجاذبية للمعلن أو حتى نسب المشاهدة».
تركز الخطة الجديدة على المناطق اللبنانية التي يرى متري ضرورة إعطائها الاهتمام اللازم: «يبدو لبنان مقتصراً على بعض شوارع بيروت خصوصاً على الشاشات الخاصة، وذلك مفهوم لأن أخبار القرى والمناطق «مش ربيحة» لكن التلفزيون العام يستطيع أن يذهب بعيداً وان يصل إلى الأماكن المهمشة».
يربط متري بين التركيز على المناطق والعلاقة مع المغتربين التي يستطيع «تلفزيون لبنان» بناءها: «المغتربون يتابعون التلفزيون المناطقي. تهمهم قراهم أكثر من البرامج الحوارية حيث صراخ السياسيين بوجه بعضهم. إن صورت قراهم وتابعت النشاطات والمشاريع، فإنهم من دون شك سيتابعون خصوصاً اننا نبث فضائياً». هنا يضرب متري برنامج «مرايا الشمال» مثلاً، مشيراً إلى انه البرنامج الوحيد الذي يتلقى اتصالات تثني عليه. لكن على من يتلقى متري اتصالات شكاوى؟ يضحك ويقول: «لا تعليق. أتحفظ».
الشق الآخر الذي تركز عليه الخطة يتعلق بنوعية الأخبار: «نريد أخباراً جيدة وهادئة، لا تدافع عن أي فريق».
لا ينفي وزير الاعلام واقع ان نسبة مشاهدة «تلفزيون لبنان» منخفضة جداً مقارنة مع بقية الشاشات: «اللبنانيون يحبون السياسة و«الخناق» وربما يهوون نوعا معينا من الترفيه. هناك دائماً من يريد متابعة تلفزيون الحزب أو الطائفة وأخذ شحنة من التوتير والهجوم على الخصم وتكفيره وتخوينه على قاعدة يعــيش زعيمي. لن أنافــس في هذا الإطار ولا في إطار برامــج المنوعات والــواقع التي تحقق رواجاً حالــياً، لكن يستطــيع «تلفــزيون لبنان» ان يكون التلفــزيون البديــل الذي يلجأ إليه الكل من دون استــثناء، كي يهدأ ويرى ما هو جميل وغني موسيقياً وإخبارياً ووثائقياً».
هل نشاهد «تلفزيون لبنان» في مستوى قريب من قناة «آرتي» الفرنسية الألمانية مثلاً؟ أم أن ذلك ضرب من الطموح المبالغ فيه؟ يجيب متري: «هناك من قال لي ان الخطة، ان نجحت، ستكون مزيجاً من «arte» الفرنسية الألمانية وقناة «mezzo» (خاصة بموسيقى الجاز الكلاسيكية) و«يورو نيوز». ليتابع: «أكيد أريد موسيقى جيدة، تسلي وتهذب الذوق، ربما لا تجلب معلنين لكن لها جمهور كبيرا عابرا للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية، كما أريد أخباراً وبرامج جميلة».
يرفض متري ان يكون ما قيل عبارة عن حلم غير قابل للتحقيق، مقللاً من تأثير المعارضة التي سيشنها المتضررون من الخطة «شرط حضور إدارة قوية».
مداخيل متفرقة
في شق التجهيز، يشدد متري على ان المسح أثبت ان «كل المعدات بحاجة إلى تغيير». ويفصح عن مفاوضات مع عدة جهات لتقديم هبات أو معدات بأسعار متدنية. و«نحن على أعتاب الوصول إلى اتفاقات قريباً. وضعنا لائحة بحاجاتنا من المعدات والكاميرات مع الأخذ بعين الاعتبار دخولنا عصر الرقمنة، لكننا نعلم ان التجهيز وحده لا يكفي. يحتاج التلفزيون إلى قرار بانتشاله من حاله».
في وقت تكاد مساهمة الدولة السنوية تكون المدخول الوحيد للتلفزيون، يلحظ متري في مشروعه مجموعة مداخيل من مصادر مختلفة: «يملك «تلفزيون لبنان» مباني غير مستثمرة في تلة الخياط والحازمية وشقة مؤجرة في الحمرا، وعلى العقارات غير المستثمرة ان تعود على الشركة بالنفع سواء كان ذلك بالتأجير أو البيع أو الاستثمار» ويتابع: «لدي تسعة اقتراحات واقعية وبسيطة ولا تشمل فرض ضرائب وتضمن الحصول على أموال تخدم التلفزيون. الخطوات مستوحاة من تجارب متعددة في فرنسا وكوريا وسويسرا من دون فرض ضرائب مباشرة على الجميع».
كنموذج عن الاقتراحات، يتوقف متري عند حقوق «تلفزيون لبنان» لدى التلفزيونات الخاصة. يشرح منعاً للالتباس: «تلفزيون لبنان يزود الجميع بالصورة من المقرات الرسمية، وهو الذي يرافق الرئيس في جولاته مثلاً ويعطي المواد لكل التلفزيونات الخاصة من دون مقابل. هذا أمر غير وارد إلا عندنا في لبنان. أخذ الصورة يجب ان يكون مقابل بدل».
نقطة أخرى يتوقف عندها الوزير تتعلق بما يمكن ان يقدمه الارشيف: «قيمة أرشيف التلفزيون التقريبية، مع ما سرق وما بعثر منه، تصل إلى حوالى 15 مليون دولار، ويمكن الاستفادة منه عبر بيع الاقراص المدمجة أو تنفيذ برامج خاصة وغيرها من الأمور التي ستؤمن مداخيل شرط ان يكون لدى المعنيين الكثير من الخيال والقليل من الحس التجاري».
مايسة عواد – جريدة السفير 12.03.2009