بقلم د. ايلي مخول
منذ زمن الفراعنة، كان السائل الثمين الضروري للحياة رمزًا لعظمة الممالك. لكن هل الماء يصنع الدولة أم الدولة تصنع الماء؟ عودة إلى قرون من ترويض الأنهار على اختلاف أنواعها وألوانها.
في كل مكان على هذا الكوكب، يتغير المناخ وتشحّ المياه. وتتبع فترات الجفاف الطويلة أحوال جوية سيئة لفترة وجيزة وعنيفة، مما يتسبب فيضانات ودمار. ويتساءل الناس عن تصرفات أو تقاعس من هم في السلطة. وفي ما يسمى بالدول المتقدمة، والتي تمتعت بمياه وفيرة ورخيصة لعدة عقود، أصبحت السيطرة على هذا السائل الثمين مرة أخرى قضية سياسية كبرى. وهكذا اختزلت السلطة إلى إحدى وظائفها الأصلية: إدارة المياه التي تعتبر، حسب الظروف، سائلا حيويا، أو مصدرا للطاقة، أو وسيلة نقل، أو تهديدا وجوديا. التاريخ قديم قدم الإنسانية.
هناك نموذج تفسيري تقليدي، ولكنه محل نزاع اليوم، يربط بين ظهور “الحضارات العظيمة” الأولى وقرب الأنهار العظيمة: النيل في مصر، دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين، ميناء موهِنجو- دارو على نهر السند، النهر الأصفر في الصين. “مصر هبة النيل”، على حد قول المؤرخ اليوناني هيرودوتُس قبل خمسة قرون من المسيح. في الواقع، أن البلاد قد نشأت من تجمع سكان حول هذا النهر طردوا من الصحراء بفعل الاحتباس الحراري الذي حدث حوالي 3500 سنة قبل الميلاد وحوّل المنطقة إلى صحراء. منذ ذلك الحين يعتمد ازدهار الدولة الفرعونية، بعد مرور خمسمائة عام، على فيضانات النيل، وعلى نظام القنوات التي تم إنشاؤها وصيانتها لتحقيق أقصى قدر من الفوائد خارج المناطق المتضررة بشكل مباشر من الفيضانات، والتي كان الفرعون، الوسيط الإلزامي بين الآلهة والبشر، يتوسلها.
الطبيعة المهيمنة
عرفت الدولة المصرية كيف تنفذ مشاريع كبرى مثل “قناة الفراعنة” التي تربط النيل بالبحر الأحمر وتنبئ بقناة السويس. كما تطورت دويلات المدن السومرية على طول نهري دجلة والفرات، وكانت محاطة بأراض مروية كبيرة. ولكن هنا مرة أخرى، يبدو أن الزراعة المستدامة تسبق الدولة، ولا تنطلق منها. كما هو الحال في إيران، حيث قام نظام القنوات، وأروقة الصرف التي تستغل منسوب المياه الجوفية، والتي سبقت الإمبراطورية الأخمينية، بتطوير شبكات كانت قائمة.
وبالتالي، فإن النظرية التي طرحها المؤرخ كارل أوغست فيتفوغل (1896-1988) عام 1957 في كتابه “الاستبداد الشرقي” – التنظيم المركزي للأعمال الهيدرولوجية الكبيرة كأساس للدولة القديمة – لا يبدو أنها تتوافق مع الواقع. إنها بالفعل تخليد الأسطورة التأسيسية للصين، وهي أسطورة يو العظيم، الإمبراطور التاريخي الأول، الذي يُعتقد أنه صانعها. فقبل ألفي عام من الميلاد، كانت هناك شبكة من قنوات الري تهدف إلى تخفيف حدة الفيضانات.
الماء لا يخلق الدولة. لكن السيادة عليها هي في الواقع صفة رمزية لسلطة الدولة. تشتهر الإمبراطوريات والممالك بأعمال هيدرولوجية ضخمة، تجسد سيطرتها على الطبيعة. قبل سبعة قرون من الميلاد أمر سنحاريب، ملك آشور، بإنشاء قناة كبيرة وقناة جروانة لإمداد نينوى، عاصمته، ونصب مسلة تذكارية حيث أعلن نفسه “ملك الكون”. وفعل داريوس الأول ملك بلاد فارس الشيء نفسه عندما أعاد بناء قناة فراعنة مصر. الرومان بدورهم ضاعفوا من القنوات لتزويد المدن في جميع أنحاء إمبراطوريتهم، تخللتها جسور قنوات المياه، وهي من الروائع الهندسية: جسر بون دو غار بفرنسا، قناة سيغوفيا، قناة قرطاج، في تونس، تقدم أروع الآثار. وفي الصين، تبهر القناة الإمبراطورية الكبرى، التي يبلغ طولها 1700 كيلومتر من شمال البلاد إلى جنوبها، الزوار الأجانب، بدءاً من إبن البندقية ماركو بولو.
“تحويل مجاري” الأنهار
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، كانت الإنجازات أكثر تواضعا. تضاعفت الطواحين المائية والقنوات بالآلاف في أوروبا الغربية في العصور الوسطى. تم إتقان الهندسة الهيدرولوجية منذ عصر النهضة فصاعدًا، وتنافست دول العصر الحديث على المهندسين الإيطاليين والهولنديين. في فرنسا أمر لويس الرابع عشر الذي اعتبر نفسه أوغسطس الجديد بشق قناة البحرين (قناة ميدي) بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. ولتزويد فرساي بالمياه، بدأ إنشاء قناة مانتِنون، التي لا تزال غير مكتملة. إذ انه من أجل عبور وادي أور، فضل الملك جسر قناة مائية، حسب الطراز الروماني المهيب، على “القناة الزاحفة” التي اقترحها فوبان.
خلال العصر الصناعي، تضاعفت الأعمال الهيدرولوجية الرئيسة: التجفيف الجزئي لنهر زْويدِرزِيه في هولندا (1920-1975)، استصلاح مستنقعات أغرو بونتينو في إيطاليا في عهد موسوليني (1928-1932)، وبناء سدود ضخمة الهدف منها ضبط مجاري المياه أو إنتاج الطاقة الكهربائية خاصة في الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي – الدنييبوغِس في أوكرانيا (1927-1932)، سدّ هوفر الذي بني خلال فترة الكساد الكبير في الولايات المتحدة، سدّ أسوان على نهر النيل في مصر (1960-1973)، سدّ إيتايبو على نهر ريو بارانا في البرازيل (1975-1982)، أو المضائق الثلاثة على نهر يانغزي جيانغ في الصين (1994-2012). بصرف النظر عن فائدتها العملية، فإن تلك المشاريع العملاقة تخدم الدعاية للأنظمة التي تروّج لها. في الاتحاد السوفياتي تم تصور المزيد من المشاريع الضخمة في عهد ستالين، ولحسن الحظ لم يجرِ تنفيذها: خطة دافيدوف إرتقبت “تحويل” مجاري الأنهار السيبيرية التي تتدفق “بلا فائدة” نحو المحيط المتجمد الشمالي، لتوجيهها نحو سهوب آسيا الوسطى. وقد جرى التخلي عن المشروع عام 1986.
إذا كانت السيطرة على المياه ترافق مع ازدهار الدول، فإن تمرد العناصر، على العكس من ذلك، يرافق أو يسبب الأزمات السياسية والاجتماعية. خراب سد مأرب* العظيم، المذكور في القرآن، يمثل سقوط مملكة حِميَر القوية في جنوب شبه الجزيرة العربية. أمّا زوال حضارة المايا، بين القرنين التاسع والعاشر، فربما نتج عن فترة جفاف طويلة. ثمة نظريات مماثلة تفسر الأزمة التي واجهتها إمبراطورية الخْمِير منذ القرن الرابع عشر، والتي اعتمد تطورها على شبكة مهمة من الخزانات وقنوات الري. وقد تكون المخاطر المناخية، من جفاف وعوارض جوية، قد أدت إلى تدهور هذا النظام. في الصين زمن الإمبراطورية، إعتبرت الفيضانات الشديدة تقليديا دليلا على أن الأسرة الحاكمة فقدت “التفويض السماوي”. ففي العام 1887، تسببت فيضانات النهر الأصفر في وفاة عدة ملايين من الأشخاص في الصين، حيث سبقت سقوط أسرة تشينغ.
بناء عليه فإن التحكم بالمياه يبدو للدول وكأنها مسألة وجودية. فمنذ العصور الوسطى، سادت صورة وهمية مشتركة بين مصر وإثيوبيا مفادها أن الواحدة من هاتين الدولتين قادرة على تحويل أو إيقاف مجرى نهر النيل، ما يتسبب في خسارة جارتها. بداية الواقع اليوم مع بناء سد النهضة العظيم على النيل الأزرق الإثيوبي منذ عام 2011، الأمر الذي تسبب في خسائر مالية كبيرة لدى المزارعين في مصر والسودان. فمصرُ تعتمد في مياهِها على نهرِ النيلِ بنسبة 97%، وذلك يبدو واضحًا عبرَ آلافِ السنينَ التي عاش فيها المصريون على ضفافِهِ للحصولِ على مياهِ الزراعة والشرب.
وتظهر صراعات مماثلة في جميع المناطق المتضررة من تغير المناخ. فإسرائيل تحبس مياه نهر الأردن على حساب جيرانها. وتهدد تركيا ببناء سدود جديدة باحتكار مياه نهري دجلة والفرات الضرورية للعراق. وتتأثر كمبوديا بشكل مباشر بالتغيرات التي تعمد إليها الصين وتايلاند على المجرى العلوي لنهر ميكونغ. ومن بين مجازفات الحرب بين روسيا وأوكرانيا مياه نهر دْنِييبر ــ التي تعمل على تبريد محطة توليد الكهرباء في زابوروجيا، وتزويد شبه جزيرة القرم بالإمدادات… وتشكل حدودا مؤقتة بين الخصوم. وليست حرب المياه سوى البداية.
• عظمة وأُفول سدّ مأرب
في القرن الثامن قبل الميلاد، كانت مملكة سبأ، (اليمن الحالي)، هي القوة المهيمنة في شبه الجزيرة العربية. لتزويد عاصمتهم مأرب، بنى الصابئة سدًا يحتفظ بمياه وادي العدين، وهو وادي يبدأ من الجبال، يتوسع بشكل دوري بسبب الأمطار الموسمية، وتضيع مياهه في صحراء الربع الخالي الكبرى. في حالته الأولى هو عبارة عن سد ترابي طوله 580 مترا وارتفاعه 4 أمتار. على مر العصور تم رفع السد عدة مرات حتى وصل علوه إلى 14 مترًا، حيث جرى بناء واجهة حجرية على جانبه. ويزود هذا الأخير نظام ري معقد، مع الأهوسة وحوض الترسيب والقنوات، والذي يغطي مساحة تصل إلى 100 كيلومتر مربع.
وقع سد مأرب تحت سيطرة مملكة يمنية جديدة هي حِمْيَر، إنهار عدة مرات خلال القرنين الخامس والسادس الميلادي. وكان الأخير حوالي العام 570: أفرغ الخزان بالكامل، واختفي نظام الري وعادت المنطقة إلى الصحراء. واضطر ما لا يقل عن 50 ألف نسمة إلى الرحيل. هذه الكارثة تلقى سداها في الآية 34 من القرآن الكريم، والتي تعتبر عقابًا إلهيًا:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ.