من نوع لا يمتّ بصلةٍ لعالم الرياضيّات والفيزياء وعلوم الحساب والأعداد . إنّ الله : وحدةٌ – كثرة ، وحدةٌ – وتمايُز . الوحدةُ التي تجمعُ كلّ ما هو تشرذم وتفكّك وبعثرة . إنها وحدةُ المحبّة.
ما يبغي راتزنغَر أن يبيّنه هو ، أنّ الوحدة الأسمى ليست ، بالنسبةِ إلى منْ يؤمنُ بالله الواحد والثالوث معًا ، وحدة النسق الواحد الجامد ؛ بمعنى إن إنموذج الوحدة المثاليّة الذي ينبغي التطلّع إليه ، ليس الوحدة المتمثّلة في لا إنقساميّة الذرّة ، تلكَ الوحدة الصغرى التي غدتْ غير قابلةٍ للإنقسام ، وما يريد راتسنجر أن يظهرهُ هو: الشكل الأسمى للوحدة والمعياريّ ، هو الوحدة المتأتّية من الحبّ. الوحدةُ التعدديّة التي يؤلّدها الحبّ ، هي وحدةٌ أعمقُ وأكثر واقعيّة من وحدة الذرّة .
إنّ مَنْ يتعرّف إلى المسيح في يسوع، وفيه وحدهُ فقط، وبإن يعترف بإنّ يسوع هو المسيح، وإنّ من يُدرك المماثلة الكليّة بين الشخص والعمل ، رائيًا فيها النقطة الحاسمة، فهذا قد تجاوز إشكاليّة الإيمان النافي ، الإيمان المخالف للحبّ ، ولقد وحّد بين الإثنين وجعلَ التفريقَ بينهما أمرًا غير معقول (لهذا وكما ذكرتُ في الحلقات السابقة، إنّ في يسوع الناصريّ ، ليس هناك في يسوع ناسوتٌ محايد وليس هناك شخصان في يسوع، ليس في يسوع " شيزوفرينيا "!).
إذن ، إنّ صلةَ الوصل ِ بين يسوع والمسيح ، والإتّحاد غير المنفصم بين الشخص وأعماله ، ووحدة الهويّة بين إنسان وفعلُ عطاء ِ الذات ، تمثّل أيضا صلةَ الوصل ِ بين الحبّ والإيمان . لإنّ " أنا " يسوع ، وشخصه الذي وضع هكذا في الموضوع المركزيّ ، له ما يتفرّد بهِ ، وهو : أنّ هذا (الأنا) ، ليس له جوهرٌ مستقلٌّ ومنفصلٌ ، إنّما هو بكلّيته " كائنٌ – إنطلاقا- من – (أنت) – الآب ، و " كائن – من – أجل – (أنتم) – البشر .
إنهُ وحدة اللوغوس (الحقيقة) والحبّ ، ففيه يصبحُ الحبّ لوغوسًا ، أي حقيقة كيان الإنسان .
ما معنى الطبيعة الإلهيّة ؟ أكثرُ الناس يفسّرون وكأنّما هذه الطبيعة تؤدّي في المسيح دورَ الشعور أو الإحساس بالذات أو الإرادة ، وصوّروا المسيح وكأنّه خال ٍ من كلّ إرادة بشريّة مستقلّة . بمعنى آخر : صوّروا المسيح وكأنّه " إلهٌ لابس جسدًا بشريّا "، هذا الموقف خطر جدّا ، ومن يؤكّده يناقض مجمع خلقدونيا ، وهو خارجٌ عن الإيمان الرسوليّ وتقليد الكنيسة .
من أين يا تُرى جاءَ الإنحراف هذا والتشويه ؟
1 – من التصوّرات القديمة ، والثقافات المختلفة التي غزتنا بدون أن نُعيد النظر في الغضّ والسمين منها . هذه الثقافات ، قسمٌ منها سبقَ إنتمائنا للمسيحيّة . فعندما نقول : إنّ يسوع هو " الإله المتجسّد "، تستيقظ فينا المخيّلة والتصوّرات وبقايا الوثنيّة فنقول : إنّ الله هو الله ، وإذا تجسّد ، لا يمكنهُ أن يصيرَ إنسانــــًا بالضبط ، أو على الأقل كان يجبُ أن يخدُم بعض الحدود في تجسّده ، حفظا لكرامته ، فصار إنسانـــًا بأقلّ قدر ٍ ممكن ٍ . وهذا الموقف هو خطأ كبير يمسّ " سرّ التجسّد " .
2- صيغة مجمع خلقدونيّا ، قد تكون هي السبب في هذه التصوّرات . المجمعُ أكّد على أنّ المسيح " شخصُ واحد " ذو (طبيعتين) ، والعُقدة هنا في معنى كلمة " طبيعة " .. ففكرتنا نحنُ عن الطبيعة يشوبها ، على الأقلّ ، بعض الغموض .
إنّ طبيعة الأشياء هي خصوصيّتها العميقة في تصوّر الناس . وهي الجوابُ على السؤال الذي نطرحه أمام كلّ كائن : ما هذا ؟ فنقول : هذا إله ، هذا إنسان ، هذا حيوان ، هذا نبات .. ولكلّ من الكائنات طبيعته الخاصّة التي يتميّز بها عن غيرهِ. أما تعبيرُ " الشخص " ، فإنّه أسهلُ وأقرب إلينا ، لإننا نعرفُ أشخاصًا ونعتقدُ أننا نفهمُ المقصودَ بكلمة " شخص " . إنه الفرد المنفرد الواعي بذاته ، صاحب إرادة مستقلّة ، ذو قرار ٍ تامّ لأعمالهِ . فعندما يقولُ المجمع الخلقيدونيّ ، إنّ المسيح هو " شخصُ واحد " نفهمُ : إن يسوع هو إنسان وإله في نفس الوقت ، فهو إذن مقرّ الشعور والقرار ، أي ليس لديه شعورٌ واحد ، وإرادة واحدة حرّة " وروح " واحدة نعتقدها هي الروح القدس . أي ذلكَ الجانب الإلهيّ .
للأسف ، إنّ ما قصدهُ المجمعُ الخلقيدونيّ كان العكس تمامًا .. لماذا إذن أخطأنا التفسير ؟ لإننا نخلطُ بين الطبع (النفسانيّ ) ، وبين الطبيعة (الوجود). إنّ تأكيد المجمع القويّ على أنّ " الطبيعتين " الإلهيّة والإنسانيّة في يسوع المسيح ، هما غير مختلطتين ولا متحوّلتين ولا منقسمتين ولا منفصلتين . يعني أنّ في يسوع شعورًا بذاته ، شعورًا إنسانيّا حقا ، وشعورًا إلهيّا حقّا ، إرادة إنسانيّة وإرادة إلهيّة (ففي الحبّ مثلا ، يمكنكَ أن تفهمَ لماذا يُخطئ حبيبكَ ولا توافقهُ على ذلك ، مع ذلك تقدّره ، وتستمرّ في حبّه ، لإن لديكَ شعورًا عميقا به ، وكأنه متقمّص إيّاك ).
سنرى لاحقا في الحلقة السادس (c) من أين أتت التفاسير المغلوطة حول المسيح ؟
عدي توما / زينيت