وليست تعاريفهم حول الشخص أو الأقنوم إلا تعاريف "ميتافيزيقيّة" فلسفيّة.
ما العمل الآن؟ هل نستمرّ على إستعمال لغة المجمع ونستمرّ في الخلط أن نعيد صياغة تعابير الإيمان الواحد؟ إننا لن نمسحَ ما قالوه، بالعكس، يجب أن نحاول برغم كلّ شيءٍ أن نستخلص بعض العِبر:
1- أمام اوجه يسوه المتعدّدة – هذه المرآة المهشّمة – يحاول المجمع الخلقيدونيّ أن يصوغ إيمان الكنيسة، ليجعلَ من هذه الصياغة مرساة أكيدة ومقياسًا للتقييم. وهذه المحاولة جديرة بإهتمامنا. فكلّ شظيّة من المرآة تحتوي على جزءٌ من الحقيقة. فعلينا إذن، أن نبحثَ عن جوانب يسوع الإنسان. وهذا ضروريّ جدّا. وعلينا أيضًا أنْ نؤكّدَ البعد الإلهيّ لذاك الذي كان صورة الله البشريّة، وهذا أيضًا ضرورة. لكن، مايحدث عادة هو أن أيّ واحدٍ منّا عندما يمسكُ بيده قطعة المرآة التي عنده، يميل إلى الحصر فيقول: " هوّذا وجهُ يسوع المسيح الوحيد والحقيقيّ، وما هو غير هذا: الباقي ليس سوى تخيّلات وأوهام.." إذن، لن ينتهي بحثنا عن يسوع وسيبقى يسوع – كما قالت جماعة " مجانين يسوع " مطلوبًا على هذه الأرض، ولا يمكن لاحد أن " يضعَ عليه يده " . لقد إكتشفنا خلال هذه القرون الماضية، أنّ كلّ محاولة لتقسيم وحدة يسوع المسيح، أي تقسيم طبيعته الإنسانيّة والإلهيّة، هي محاولة فاشلة، وسيتحوّل المسيح إمّا إلى شخصيّة كاريكاتوريّة تافهة أو مسمومة، كما قال نيتشه "إنّ الحقائق المقتولةُ تصبح سامّة" فيسوع إذن إنسان حق وإله حقّ. (هذا هو ربّنا وليس من حقّ أحدٍ أن يقتل هذه الحقيقة).
2- من جهةٍ ثانية، مهما كانت مهمًا بالنسبة إلى المسيحيّ تأكيد وحدة يسوع الإلهيّة – الإنسانيّة، يبقى أن نفهمَ ما هو المقصود من تعابيرنا المستعملة بخصوصه : أي " طبيعتان" و " شخص واحد". إنّ خطرَ هذه التعابير هو عندما تصبحُ – كما ذكرنا سابقا – غامضة مبهمة. وبرغم أنّه صحيح أنّ البحث في هذا الإتجاه مهّد الطريق نحو فهم أعمق للمسيح، وجنّبنا الوقوع في متاهاتٍ شائكةٍ، ولكن، لا يمكن للتعابير وحدها أن تعطينا معرفة حيّة بالربّ يسوع. فالكلمات ليست سوى إشارات على الطريق المؤدّية للمسيح. ليست هي الطريق إذن. تصوّروا لحظة أنكم ألتقيتم في حياتكم برجلٍ نيّرٍ، أو قديس تحت مظهر عاديّ، وطلب منكم فيما بعد أن تتكلّموا عنه للشهادة عن حياته وأعماله, ستقولون: لقد كان فلان إنسانيًا إلى أبعد حدّ، لكنه عندما كان يتكلّم ويعمل يشعّ بنور خفيّ عجيب، لا ندري مصدره، حقّا كان فلان رجل الله. عندما نؤكّد مثل هذه الأقوال نصوّر شعورنا وأحاسيسنا وذكرياتنا، ونعبّر عن خبرة حيويّة لا تستطيعُ الكلمات أن تعطيها حقّها. ولنفترضَ أن شخصًا لم يعرف هذا الرجل، يتدخل ويقول:" إن فلانًا لم يكن سوى إنسان مثل باقي الناس" عندئذٍ سيثور من عرفه وأحبّه، ولعلّ أوّل جوابٍ سيكون : كلا، كان هذا الرجل شيئا آخر بعد آخر.
إنّ هذا الجواب صحيح، لأنه يحاول أن يعطي ما هو جوهريّ, لكن هل سيقتنعُ المحدث الذي لم يعرف ذلك الرجل؟ سيرى في كلامكم عن " البعد الثاني " جملًا مبهمةً وغامضة، بينما أنتم تتكلّمونَ عن الواقع المبنيّ على الذكريات والخبرة.
إرجعوا إلى مثال الرجل النيّر الذي ذكرناه سابقًا، لو طُلبَ منّك أن تصف شخصيّته المتميّزة، ستحاول أن تستجمعَ ذكرياتكَ عنه، وأن تتذكّر بعض أقوالهِ وبعض أعماله في المكان أو الظرف الفلانيّ. حدث كذا وسافرَ إلى هنا أو هناك .. الخ.. ولكنّك سرعانَ ما تشعر، أنّ أهمّ ما يكشف شخصيّة صديقكَ ليس هذا الحدث أو ذاك، ولكن الرابط الذي يجمع الأعمال والأقوال بعضها ببعض كحلقاتٍ متسلسلةٍ. بمعنى آخر، عليكَ أن تكتشفَ المنطلق الذي منه تنبعث الأعمال والاقوال وتعطيها أشراقتها، عندئذ لن تتكلّم عن الأحداث عن بعدٍ (مهما كانت أهمية هذه الأحداث)، بل ستحاول قبل كلّ شيءٍ أن تعبر عن شمول تلك الشخصية ليتقرّب السامع أو القارئ منها أكثر فأكثر.
هذه الفكرة الشاملة، هي التي ستتحكّم في إختيار ذكرياتكَ، وستذكر الحدث الفلاني دون غيره لانه يحمل معنى أعمق، ولانه أكثر شفافيّة، ولانه " يكشف " (الدنح كاشف) هذا الصديق ..
هذا ما حدث بالنسبة إلى أصدقاء يسوع، والأناجيل برغم الأختلافات التي فيها، تدعونا بواسطة أعمال وأقوال يسوع إلى أكتشاف أعمق لشخصيّته. إنها ذكرياتٍ مختارة تؤكّد فكرة أولى وهي: أنّ يسوع كان رجلًا حرًّا.. وهذا أوّل إنطباعٍ نخرج به بعد قراءة الأناجيل… خصوصًا بعد إستطلاعنا أعمالهِ الخارجية (التي لم يعطنا منها إلا القليل) . ركّز الأنجيل خصوصًا على أنه كان يأكل ويشرب وينام ويتعب مثلنا. ولهذه الاشارات معنى يساعدنا على تجنّب كلّ " دوستيّة " (الدوستيّة أو المظهريّة أو الشبهويّة.. تعليم غنوصيّ إنتشر في القرون الثلاثة الأولى، يعتبر أنّ جسد يسوع لم يكنْ غير خيال، حاربه القديس اغناطيوس الأنطاكي وندّدت به الكنيسة مرارًا. في مفاهيم العقليّة الشعبيّة حول المسيح آثار لا تزال باقية من هذا التعليم) .. فالإنجيل يريد أن يقول أنّ يسوع مثلنا شبيهٌ بنا، لكنْ هذه الاشارات تبقى ثانويّةً، فمعاصروا يسوع تأثّروا به لاسبابٍ أخرى.
كان ليسوع سلطة متميّزة ( أو كما تقول الأناجيل: سلطان) ناتجة عن حريته العجيبة، وأول ما جلبَ إنتباه الناس هو أسلوبهُ في الكلام وتصرّفاتهِ ومواقفهِ من الشريعة اليهوديّة والسلطات المدنيّة، وحتى نظرته على الناس والأشياء وطريقة شفائه المرضى وغفرانه لخطاياهم. وقد رأينا في القسم الثاني جذور يسوع الجليليّة والحركات المعمدانية كعناصر مساعدة لنمو حريّة يسوع وبروز شخصيته. ولكن، هذا التراث لا يكفي وحده لان يساعد على ظهور شخص مثل يسوع، فيسوع شخص وحيد فريد من نوعهِ، متميّز، " حر " ، بكلّ معنى الكلمة، يتعدّى مجموعَ ما ورثه من وطنه وأهله، إنّ سرّ يسوع أبعد من كلّ هذا .
إنتهى بنعمة المسيح
عدي توما / زينيت