“الإنسان المعتدل هو شخص حساس، يعرف كيف يبكي ولا يخجل من ذلك. وإذا هُزم ينهض من جديد؛ وإذا انتصر هو قادر على أن يعود إلى حياته الخفية المعتادة. فهو لا يبحث عن التصفيق، ولكنه يعرف أنه يحتاج للآخرين” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في تعليمه الأسبوعي
أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان واستهلّ تعليمه الأسبوعي بالقول سأتحدث اليوم عن الفضيلة الأساسية الرابعة والأخيرة: الاعتدال. ومع الثلاثة الآخريات، تشترك هذه الفضيلة في تاريخ يعود إلى زمن بعيد ولا يخص المسيحيين وحدهم. بالنسبة لليونانيين، كانت السعادة هدف ممارسة الفضائل. وقد كتب الفيلسوف أرسطو أهم أطروحاته في الأخلاق، وجهها إلى ابنه نيقوماخوس، لكي يعلمه فن الحياة. لماذا نبحث جميعنا عن السعادة ولكن القليلون فقط يبلغونها؟ للإجابة على هذا السؤال، تناول أرسطو موضوع الفضائل، ومن بينها فسحة مهمّة لـ enkráteia، الاعتدال. المصطلح اليوناني يعني حرفيا “السلطة على النفس”. وبالتالي فإن هذه الفضيلة هي القدرة على ضبط النفس، وفن عدم الانجراف وراء المشاعر المتمردة، وإحلال النظام في ما يسميه مانزوني “اضطراب القلب البشري”.
تابع البابا فرنسيس يقول: يقول لنا التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية “الاعتدال هو الفضيلة الاخلاقية التي تكبح جماح شهوة الملذات وتمنح الاتزان في استعمال الخيرات المخلوقة”. “وهي – يتابع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية – تؤمِّن سيطرة الارادة على الغرائز، وتحفظ الرغائب في حدود الاستقامة. ان الرجل القنوع يوجه نحو الخير شهواته الحسية، ويحافظ على اعتدال مقدس، و”لا يتتبع هواء ليسير في شهوات قلبه”.
ولذلك فإن الاعتدال، كما تقول الكلمة الإيطالية، هو فضيلة التدبير الصحيح. فهو يتصرف بحكمة في كل موقف، لأن الأشخاص الذين يتصرفون دائمًا يحركهم الاندفاع أو الافراط لا يمكن الاعتماد عليهم في نهاية المطاف. في عالم يفتخر فيه الكثير من الأشخاص بأنهم يقولون ما يفكرون فيه، يفضّل الشخص المعتدل أن يفكر فيما يقوله. فهو لا يقدم وعوداً فارغة، بل يأخذ على عاتقه التزامات بالقدر الذي يمكنه أن يتمّمها.
أضاف الأب الأقدس يقول حتى مع الملذات، يتصرف الشخص بحكمة. إن التعبير الحرّ للنزوات ومنح الترخيص الكامل للمتع والملذات ينتهي به الأمر بالانقلاب علينا ويجعلنا ننزلق في حالة من الملل. كم من الأشخاص أرادوا بشراهة أن يجرِّبوا كل شيء، ووجدوا أنفسهم يفقدون اللذة في كل شيء! من الأفضل إذًا أن نبحث عن المعيار الصحيح: على سبيل المثال، لكي نستطيب نبيذًا جيد، أن نتلذّذ به في رشفات صغيرة هو أفضل من أن نتناوله في جرعة واحدة. إن الشخص المعتدل يعرف كيف يزن ويقيس الكلمات جيدًا. لا يسمح للحظة غضب بأن تدمر العلاقات والصداقات التي لا يمكن إعادة بنائها إلا بصعوبة. لاسيما في الحياة العائلية، حيث تنخفض الموانع، نتعرّض جميعًا لخطر عدم السيطرة على التوترات والانزعاج والغضب. هناك وقت لكي نتكلّم ووقت لكي نصمت، ولكن كلاهما يتطلبان المعيار الصحيح. وهذا الأمر ينطبق على أشياء كثيرة، على سبيل المثال أن نكون مع الآخرين وأن نكون وحدنا.
تابع الحبر الأعظم يقول إذا كان الشخص المعتدل يعرف كيف يتحكم في أعصابه، فهذا لا يعني أننا سنراه دائمًا بوجه مسالم ومبتسم. في الواقع، من الضروري أحيانًا أن نغضب ونسخط، ولكن دائمًا بالطريقة الصحيحة. أحيانًا قد تكون كلمة عتاب سليمة أكثر من الصمت اللاذع والمُمتعض. إن الشخص المعتدل يعرف أنه لا يوجد شيء أكثر إزعاجًا من إصلاح الآخر، لكنه يعلم أيضًا أن ذلك ضروري: وإلا فسيُطلَق العنان للشر. في بعض الحالات، ينجح الشخص المعتدل في الحفاظ على الطرفين معًا: فهو يؤكد على المبادئ المطلقة، ويطالب بقيم غير قابلة للتفاوض، ولكنه يعرف أيضًا كيف يفهم الأشخاص ويظهر التعاطف معهم.
أضاف الأب الأقدس يقول ولذلك فإن عطيّة الشخص المعتدل هي التوازن، صفة ثمينة بقدر ما هي نادرة. كل شيء في عالمنا في الواقع، يدفعنا نحو الإفراط. أما الاعتدال فيتناسب بشكل جيد مع المواقف الإنجيلية مثل الصغر، والتكتم، والعيش في الخفية، والوداعة. إن المعتدل يقدِّر احترام الآخرين، ولكنه لا يجعل منه المعيار الوحيد لكل فعل وكل كلمة. هو شخص حساس، يعرف كيف يبكي ولا يخجل من ذلك، لكنه لا يشعر بالأسف على نفسه. وإذا هُزم ينهض من جديد؛ وإذا انتصر هو قادر على أن يعود إلى حياته الخفية المعتادة. فهو لا يبحث عن التصفيق، ولكنه يعرف أنه يحتاج للآخرين.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول ليس صحيحًا أن الاعتدال يجعل المرء رماديًا وكئيبًا. لا بل هو يجعله يستمتع بشكل أفضل بخيور الحياة: الجلوس معًا إلى المائدة، وحنان بعض الصداقات، والثقة بالحكماء، والاندهاش بجمال الخليقة. إنَّ السعادة مع الاعتدال هي الفرح الذي يزهر في قلوب الذين يعرفون ويقدرون ما هو أكثر أهمية في الحياة.